كارثة الأسطول المغربي العتيد هكذا تم القضاء على القوة العسكرية المغربية في البحار إبراهيم الطالب

 

إلى أوائل القرن الثالث عشر الهجري الموافق أواخر القرن 18 الميلادي كانت دول الغرب لا تزال تحفظ للمغرب هيبَته، لِما تعْلم من قوة أساطيله في البحر، واستحكام دفاعه في البر، ولم تنس أوربا أن المغرب استطاع أن يحرر أكثر ثغوره من الاحتلال الأجنبي، وآخر ذلك مدينة الجديدة التي حررها المغاربة من يد البرتغال عام 1182هـ/1768م؛ أي خلال القرن18 الميلادي الذي ازدهرت فيه قوة أوروبا.

وكانت دول الغرب التي تستفيد من المياه المغربية دأبت على أن تؤدي للمغرب ضريبة سنوية، ليستديم الصلح بينها وبين المغرب في البحر، وقد استمرت السويد والدانمارك على أداء هذه الضريبة حتى منتصف القرن الثالث عشر الهجري.

وسبب ذلك كله، أن كثيرا من معدات الحرب وسائر وسائل الحياة كانت متقاربة في الجملة، وكانت مدنية أوروبا لا تزال لم تخرج كثير من نظرياتها العلمية وأعمالها التجريبية إلى المجال العملي وحيز التطبيق، فلذلك لم يظهر قبل القرن الثالث عشر الهجري كبير تفوق للغرب على غيره.

حتى إذا حل القرن التاسع عشر الميلادي أخذت المدنية الغربية تأتي ثمراتها، فاستخدمت القوة البخارية، ثم القوة الكهربائية، وتوصلت بهما إلى مخترعات كثيرة وعظيمة، قلبت الأوضاع، وقربت الأبعاد، ورفعت مقام الغرب عاليا.

والأدهى من ذلك أن هذا السلطان اضطر لحل الأسطول المغربي العنيد! ففي عام 1233هـ/1817م منع رؤساء الأسطول المغربي من الجهاد في البحر، ووزع بعض قطعه على الإيالات المجاورة للمغرب مثل الجزائر وطرابلس، والباقي أنزل منه المدافع وغيرها من آلات الحرب؛ وأعرض عن أمر البحر رأسا، بعد أن كان الأسطول المغربي أكثر وأحسن من أساطيل الجزائر وتونس (1).

ما الذي حمل المولى سليمان على اتخاذ هذا القرار الخطير الذي ترك شواطئ المغرب مكشوفة ليس لها من أسطول يحميها؟

هل حب العزلة بلغ به إلى هذا الحد؟

كلا… بدون شك هناك سبب قاهر هو الذي دفع به للإقدام على هذا العمل البالغ الغاية في الخطورة، وليس ذلك إلا ضغط ماكر من بعض الدول التي ضاقت بالأساطيل العربية العتيدة، فصارت تستعمل مختلف الوسائل لتدميرها: مرة باسم منع القرصنة؛ ومرة بهجوم سافر عليها، حتى تبقى الشواطئ التي تقلق بال هذه الدول مكشوفة.

ولأجل أن نقتنع بوجود هذا الضغط العنيف على سلطان المغرب، نسوق أمثلة للمؤامرات التي كانت تبيِّتها طائفة من الدول الكبار للقضاء على الأسطول الإسلامي أينما كان بالمشرق أو المغرب:

جاء في “كتاب الجزائر” للأستاذ أحمد توفيق المدني:

(قرر مؤتمر “إيكسلاشابيل” في 30 سبتمبر 1818م/1234هـ: إلغاء القرصنة؛ وسافر وفد إنجليزي فرنسي إلى الجزائر، ليقنع الباشا بوجوب العدول عن تلك الحرب البحرية؛ إلا أن كل المحاولات ذهبت عبثا، وأصر حسين على أنه يستمر على حربه البحرية مع كل دولة لا تتعاقد معه بمعاهدة، وفي 12 جويليه 1824 جاء الأسطول الإنجليزي لمحاربة الجزائر، واستمرت الحرب إلى يوم 29 جويليه، ولم يستطع الإنجليز أن ينال من حصون الجزائر أو أسطولها أي منال فقفل راجعا)اهـ الصفحة 42.

وإذا كانت إنجلترا اندحرت هذه المرة أمام الأسطول الجزائري، فقد نجحت إلى حد بعيد بعد هذه الموقعة بأعوام ثلاثة فقط في إغراق الأسطول العثماني العتيد.

ففي عام 1243هـ/1827م إبان ثورة اليونان على الدولة العلِيَّة؛ بينما الأسطول العثماني وأساطيل الولايات التابعة للخلافة (مصر وطرابلس وتونس والجزائر) راسية للاحتراس بالسواحل اليونانية قبالة أساطيل الدول المعاضدة لليونان تحت قيادة الأميرال الإنجليزي؛ في هذا الوضع ومن غير إعلان بالحرب ورد الأسطول الإنجليزي على الأسطول العثماني في صورة المُعاضد، لأن السلم كان متأكدا بين الدولتين، ولم يكن بينهما شائبة حرب بالمرة، وأشارت الأساطيل بعضها إلى بعض بعلامات السلم، فلم تلبث أن تخللت بين الأساطيل العثمانية، حتى إذا تم تمكنها منها أطلقت عليها النار من جميع الجهات في آن واحد، مع شدة الالتحام والتداخل، والمسلمون في حالة الدَّعة اعتمادا على السلم المحقق، فهلكت جميع تلك الأساطيل وغرقت في البحر دفعة واحدة بمن فيها.. (2).

وبعد هذه الحادثة التي لا تحتاج إلى تعليق، لا نَعْدم شواهدَ أخرى تُثبت تضايق هذه الدولة ومن على شاكلتها من الأساطيل الإسلامية، وتُقيم بعض العذر للمولى سليمان فيما أقدم عليه، وسنجد ذلك هذه المرة في موقف الإنجليز والألمان من الأسطول العربي في عُمان وزنجبار والبحرين:

ففي عام 1224هـ/1809م تمكنت “شركة الهند الإنجليزية” من إرسال أسطول إلى عُمان ليحارب بعض العرب بتهمة القرصنة.

وكرَّر الإنجليز عملهم في عمان مع طوائف أخرى من العرب وصفوهم بالقرصان.

ومن عام 1271هـ/1854م صارت إنجلترا تصارح بحقيقة مقاصدها؛ وهي أنها لا تطيق أن ترى على ثبَج البحر مقاتلا واحدا إن لم يكن تحت رايتها.

وكانت نهايةُ مأساة هذا الجزء من الشرق العربي أن هدم الإنجليز والألمان دولة زنجبار، كما هدموا دولة عمان، ودمروا أسطول البحرين.

فهذه بضعة شواهد ناطقة بمدى خطورة الغارة التي شنتها بعض دول أوروبا ضد الأساطيل الإسلامية شرقا وغربا.

ومما يكشف عن المؤامرة المُدبرة ضد الأسطول المغربي بالخصوص مأساة هذا الأسطول أيام السلطان المولى عبد الرحمن خلف المولى سليمان.

وقد تجاهل السلطان الجديد المؤامرة المُبَيَّتة، وأصدر قراره عام 1243هـ/1827م لإنشاء بعض القراصين لتُضَم لِما كان قد بقي من عهد جده السلطان سيدي محمد بن عبد الله، وأذِن لرؤساء البحر بالعدوتين في الخروج فيها، فخرج الرئيسان الحاج عبد الرحمن بركاش والحاج عبد الرحمن بريطل، وغنموا بعض مراكب النَّمسا لَمَّا لم يكن معها رخصة العبور…

فماذا كانت نتيجة هذا القرار الذي تجاهل فيه سلطان المغرب نيات أوروبا؟

كانت النتيجة أن تعرضت إحدى موانئ المغرب لهجوم قِطعة من الأسطول النمساوي، حيث ضرب عام 1829/1245م مرسى العرائش، وأنزل جنوده للبَرّ لتُحرق أسطول هذه المرسى؛ وعلى الرغم من صدِّ المغاربة لهذا الهجوم بقوة، وطردهم للمهاجم: فقد تدخلت إنجلترا مع المغرب حتى انتهى الأمر بما طالما تمنته هذه الدولة وأصدقاؤها من جعل حدّ لنشاط الأسطول المغربي.(3)

وقد علق مؤرخ المغرب الناصري(4) على هذا الهجوم النمساوي وبيَّن الظروف التي حل فيها الأسطول المغربي، وقال:

(واعلم أن هذه الوقعة هي التي كانت سببا في إعراض السلطان المولى عبد الرحمن عن الغزو في البحر، والاعتناء بشأنه، فإنه -رحمه الله- لما أراد إحياء هذه السنة صادف إبان قيام شوكة الفرنج، ووفور عددهم وأدواتهم البحرية، وصار الغزو في البحر يثير الخصومة والدفاع، والتجادل والنزاع، ويهيج الضغن بين الدولة العلية ودول الأجناس الموالية لها، حتى كاد عقد المهادنة ينفصم، وأكد ذلك اتفاق استيلاء الفرنسيين على ثغر الجزائر، فوَجَم السلطان رحمه الله، وأعمل فكره ورَوِيَّته، فظهر له التوقفُ عن أمر البحر رعيا للمصلحة الوقتية، ولقلة المنفعة العائدة من غزو المراكب الإسلامية، وانضم إلى ذلك إعلان الدول الكبار من الفرنج مثل الإنجليز والفرنسيين: “بأن لا تكون المراكب إلا لمن يقوم بضبط قوانين البحر التي يستقيم بها أمره، وتحمد معها العاقبة، وتدوم بحفظها المودة على مقتضى الشروط، ومن مهمات ذلك تنصيب القناصل بالمراسي التي تريد الدولة دخول مراكبها إليها وتجارتها فيها أي دولة كانت”، ومن هذه المهمات ما قد لا يساعد الشرع أو الطبع مثلالكرنتينات وما يترتب عليها، إلى غير ذلك مما فيه هوس كبير، فاشتد عزم السلطان رحمه الله على ترك ما يفضي إلى ذلك، وتأكد لديه إهمالُه لتوفر هذه الأسباب…) هذا تعليق “الاستقصا”على هذا الحادث الشنيع.

وهناك جانب خطير في المؤامرة ضد الأسطول المغربي يشير له المؤرخ ابن زيدان(5) يعلق به على حَلِّ هذا الأسطول بالعبارات التالية:

(وحدثني من وثقت بخبره أنه لما بويع المولى عبد الرحمن علق بعض الأجناس المجاورين للإيالة المغربية الاعتراف بسلطته على إبطال القوة البحرية فامتنع، وبعد مراجعات وقع الاتفاق على بناء الأبراج بثغر الرباط، فأمر ببناء برج الصراط، وبرج السقالة، وبرج الدار، وبرج القصبة والسقالة.

ثم إن المترجم هو الذي أمر على وجه السر بتغريق الأسطول البحري المغربي، لأمر أوجبه).

ولم يُبيِّن المؤرخ ابن زيدان “الأمر الذي أوجبه” وحقيقته أن فرنسا انتهزت فرصة انهزام المغرب في “موقعة إيسلي” ففرضت على سلطانه أن يُلغي من البحر القراصين المغربية، وتحت هذا الضغط العنيف لم يَرَ سلطان المغرب بُدًّا من أن يبادر فينزل بالأسطول المغربي نهايته الشنيعة). (6).

وهذا يُفيدنا أيضا تاريخ ذلك الحادث المشؤوم، وأنه كان إثر معركة إيسلي الواقعة عام 1844م/ 1360هـ.

هكذا يختفي الأسطول المغربي من الوجود بعد تاريخ مجيد، وماض حافل بجلائل الأعمال، مليئ بآيات البطولة والشجاعة المثالية.

وهكذا تنجح المؤامرات الدنيئة في القضاء على قوة المغرب البحرية بعدما قضت وستقضي على قواتٍ بحرية أخرى في مختلف بقاع العالم الإسلامي.

ابتدأ بحل هذا الأسطول أيام المولى سليمان، ثم أجهز عليه نهائيا أيام السلطان المولى عبد الرحمن، بعدما كان إلى عهد قريب جدا يغالب أساطيل الغرب فيغلبها.

مثال لذلك: “المعركة البحرية” التي دارت على شواطئ طرابلس الغرب بين الأسطول المغربي والأسطول الأمريكي، أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، حيث انتصر فيها الأسطول المغربي!

ففي عام 1218هـ/1803م وجهت أمريكا أسطولها الحربي لحصار “طرابلس” التي كانت سفنها تضر بالسفن الأمريكية في ذلك الحين، فهبَّ المغرب لنصرة القطر الشقيق، وسار الأسطول المغربي يسابق الرياح، ويطير بأجنحة النسور والعقبان، لكون سفنه كانت خفيفة، جامعة بين الشراع “القلوع” والمجاذف، فكانت قوة سيرها مضاعفة، فسبق الأسطول الجزائري عن نجدة لإخوانه الطرابلسيين، وما كادالأسطول لأمريكي يصل إلى طرابلس حتى اعترضه الأسطول المغربي فقطعه عنها، وأبلى بلاء حسنا، فلم تمر إلا هنيهة حتى صيره على وجه الماء!

ولما بلغ ذلك مسامع أمريكا بعثت عمارة أخرى إلى طرابلس، ولكن لقيها الأسطول المغربي ثانيا فبدد تلك العمارة الأمريكية، ودام النضال بين الأسطولين زمنا إلى سنة 1231هـ/1815م، حيث صار لأمريكا أسطول قوي لا يستهان به، فركن الطرفان للمسالمة، وربط المعاهدة الودادية. (7)

فما السر في هذا التقهقر المفاجئ الذي جعل أسطول المغرب العتيد يستسلم لنهايته الشنيعة دون حرب ولا قتال؟

السبب واضح: إنه الشرارة الأولى من المدنية الغربية تَطير على المغرب فتقضي على أسطوله، وفي الأمر أيضا درس قاس للمغرب، الذي لم يأخذ بالصالح من هذه الحضارة الغربية، لأن من طبيعة هذه المدنية أنها تقضي على كل من لم يأخذ بأسبابها، سيما من كان جارا قريبا لها مثل المغرب.

سمع خير الدين التونسي(8) بعض أعيان أوربا يقول ما معناه:

(إن التمدن الأوروباوي تدفق سيله على الأرض، فلا يعارضه شيء إلا استأصلته قوة تياره المتتابع، فيُخشى على الممالك المجاورة لأوروبا من ذلك التيار إلا إذا حذوه، وجروا مجراه في التنظيمات الدنيوية، فيمكن نجاتهم من الغرق).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أحمد الناصري، الاستقصا، الطبعة المصرية ج 4 ص 151.

(2) انظر “صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار” تأليف الشيخ محمد بيرم الخامس التونسي ج4 ص43 وج5 ص55؛ و”تاريخ الدولة العلية العثمانية” تأليف محمد فريد بك، ص217-218.

(3) الاستقصا ج4 ص183-184.

(4) المصدر نفسه، ج4 ص184.

(5) الإتحاف ج5 ص153-154.

(6) توجد هذه الحقيقة في مذكرات للطاهر بن محمد بن عبد السلام بن الحاج الأودي أحد أفراد البعثة الحسنية. أطلق عليها اسم: “الاستبصار”.

(7) من مقال للمؤرخ المغربي الكبير محمد علي الدكالي السلوي: نشره في جريدة “المغرب”، عدد ممتاز رقم 346 السنة الثالثة.

(9) ذكر هذا في كتابه: “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك” ص50.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *