الضائقة المالية للمخزن الأستاذ إدريس كرم

خطر جديد ظهر فجأة بعد رجوع كولون بريموند، يتمثل في كون المخزن لم يقدر على التوصل بالأموال التي تم اقتراضها من بنك الدولة، والتي هي عبارة عن مئات الآلاف من الفرنكات، وذلك لصعوبة المواصلات وقطع الطرق عن العاصمة من طرف الثوار، كما أن المفاوضات لم تثمر أي اتفاق، ولم تعد تقبل أوراق المخزن، كما أنه في حالة إخفاق الطيب المقري نهائيا بسبب الحوادث الجارية، فلن يجد المخزن مصدرا لتمويل نفقات الجيش وتسديد أجور أفراده، مما يعني تخلي الجنود عن الدفاع عن المدينة وتعرضها للنهب من قبل الثوار.
وكما سبق أن أوضحت في مراسلتي بتاريخ 29 أبريل فإني أوجد عند السيد بينجيون، ممثل دار برانشفيك الذي نصح بقبول التعامل بالأوراق المخزنية وبيع الكمبيالات باسم داره، وقد طلبت من المحميين الفرنسيين في الأيام الأولى من شهر ماي شراء كمبيالات برانشفيك لتوفير المال الكافي لسداد أجور القوات الحامية للعاصمة؛ لكن بعد معركة 4 ماي أبلغني بينكو بأنه علم من المتفاوضين بتخوفه من أن الثوار لن يغادروا أماكنهم، وأنه لن يجد كمبيالات للبيع.
الإعلام بتدخل القوات الفرنسية بفاس
أصبح وضعنا مضطربا، ذلك أنه في 5 ماي تم إبلاغنا بأن قرار إرسال قوات فرنسية إلى فاس قد اتخذ، وستصل تلك القوات حوالي 12 ماي إلى العاصمة، وأن حركة الحوز بقيادة الشريف لمراني التي تضم كوم الشاوية وقوات البوليس سترافقها، وشيئا فشيئا عرف الشعب الخبر، فكان ذلك مثار احتجاج المتعصبين.
تلقيت في هذه الظروف مساعدات مهمة من زميلي الألماني فاسيط، الذي كان متفقا معي على قبول سي ادريس الزرواطي -أحد قادة المعارضة- الاطلاع بمهمات خليفة باشا المدينة، وهو تعيين يضمن الأمن، وأعطى انطباعا جيدا للقوات النظامية، بيد أن أداء أجورها بقي علينا مستعصيا. أحد زملائي الأجانب أخبرني بأن الهجوم سيكون ناجحا.
آخر أيام الحصار
قام الثوار بخوض معركتين يومي 3 و4 ماي 1911، حيث قاتلوا بفتور بسبب المجاعة وقلة الذخيرة، لكن عندما وصلتهم أنباء كولون الحملة العسكرية، رفعوا من قدرتهم القتالية للاستيلاء على المدينة قبل وصول الإمدادات المنجدة لها.
وهكذا هوجمت المدينة يوم 10 ماي 1911 بعنف شديد، حيث صار الرصاص يتساقط في ساحة القصر، مما أدى إلى جرح بعض الأشخاص بفاس الجديد، كما أحضر الثوار حبالا وسلاليم لتسلق الأسوار، وبنزينا لإحراق الأبواب، في تلك اللحظة الحرجة تدخل الطابوران النظاميان ضد الثوار وأعاقا عملياتهم، لكن المدينة بقيت مغلقة بعد اقتحامها.
القوات الشريفة تفاجأت بقوة الهجوم، في الوقت الذي لم تكن فيه لدينا أخبار عن جديد الكولون الفرنسي المقرر بعثه صوب العاصمة بسبب المواصلات المقطوعة من قبل بني احسن وزمور، وبذلك تحولت الحالة المعنوية التي ارتفعت منذ أيام إلى قلق جعل المدربين الفرنسيين يبقون في حالة يقظة واستعداد لكل طارئ ليلا ونهارا، متحسبين لاشتعال المعارك بين وقت وآخر، يأكلهم الضجر والتعب والسأم.
السلطان بدوره صار متبرما من غياب أخبار بن غبريط الذي أفادني في هذه الظروف، وكان يقضي كل أوقاته بجانبه ليتجنب اتخاذ قرارات غير مناسبة، فكنت ملزما بالقيام مقامه لدى المخزن الذي لا سلطة له، وفي تواصل دائم مع الموظفين وممثلي الشعب (ص: 554).
شرعت في التواصل مع قائد الثوار عقا البودماني الذي أعرفه شخصيا، هذا الأخير يريد أن تغادر قواتنا القنيطرة، وقد بعث لي بممثل له لإحياء العلاقة التي كانت بيننا، واعدا إياه بالحماية الفرنسية إذا ما نجح في إقناع البربر برفع معسكرهم من راس الما، وقد علمت فيما بعد أنه عمل ما بإمكانه للوصول لتلك النتيجة لكن لم يستمع له.
هذا التحول اجتنبناه بضعة أيام حتى وقعت معركة 18 ماي التي أعلمني عقا البودماني بالطريقة التي ستدور بها، فأعلمت بذلك منجان الذي كان يراقبها، وتمكن من إرجاع البربر يوم 21 ماي صباحا، وبعدها رفع المعسكر من راس الما، وسمعنا من جهة الجنوب دوي مدفع القوات الفرنسية. القوات النظامية مدعومة بفرسان الوزراء هاجموا معسكر البرنوصي الذي وهنت دفاعاته لما اقتربت قواتنا، فبدأ أفرادها يفرون.
في الساعة الثانية بعد الزوال وصل كولون الحملة العسكرية الفرنسية تحت أسوار فاس، البرابرة أخذوا يتهيؤون للمعركة القادمة، حيث تجمع فرسانهم بين انزالة فرجي وراس الما للدفاع عن قبائلهم ضد القوات الفرنسية كما سيتضح في بضعة أيام مقبلة.
الخطر القادم مع الكولون الأجنبي
أبسط عرض يصور الخطر القادم مع الكولون الأجنبي، جميع الزملاء كانوا يرون تجنب تكوين جماعات مهمة كي لا تثير انتباه الجمهور، الإجراءات المتخذة لحماية المعمرين الفرنسيين كانت كالتالي:
كونت ثلاث مجموعات: واحدة في مركز البريد، وأخرى في المستشفى، وثالثة في القنصلية؛ ثلاث حالات مختلفة، مركز البريد والمستشفى إن شئت موجودان في حي مغلق يمكن حراسته بحوالي ستين صحراويا من اتوات بعثوا من طرف الشريف الوزاني المثابر على الاتصال معي، حيث قمت بتوزيع الأسلحة على الفرنسيين، لكن أوصيتهم بالحذر الشديد.
كانت النقطة الأكثر تفجرا هي القنصلية، لأنها مجاورة لدار الوزير الكبير لكلاوي من جهة، ومن جهة أخرى كان مجرد مغادرة القنصلية يثير انتباه العموم مما يشكل خطرا على الموجودين بها، من أجل ذلك فضلت البقاء هناك.
في هذا المستوى كانت الأوضاع عصيبة في هذه الفتنة التي خشينا فيها على الأوربيين من الهياج الشعبي بالمدينة، حقا إن حذر الأوربيين وعلاقاتي مع قادة الثوار حددت الضمانات الأولية لأمن الأوربيين، لكن انطلاقا من أواخر شهر أبريل أعتقد بأن حجة الثوار بارتكاب مجزرة تأكدت بالاجتياح الفرنسي.
توسع الثورة ورجوع كولون بريموند إلى فاس بأعداد من المدربين الأوربيين سيرفع من وتيرة الصراع وشكل نمطيته، وكان السبب الذي جعلني أؤجل لأكثر أمد رجوع كولون بريموند إلى العاصمة قبل أن يكون هناك تصور جلي للموقف؛ كان تخوفي في الحقيقة مبررا بما يلي:
تزايد حالة التوتر والقلق الشعبي شيئا فشيئا من جراء انتشار المقاومة، سكان المدينة رثوا لما نقوم به من رغبتنا في عدم إدراكهم والثوار في الوقت المناسب نتيجة سياستنا، فطالبوا باجتياح المدينة من قبل البربر؛ تخوف سكان المدينة لم يكن له حد. ابتداء من نهاية شهر مارس لم نعد نخشى فقط الهياج الشعبي، هناك مناهضة حقيقية للمخزن يقوم بها الثوار في المدينة، ثورة فاس كررت الأحداث التي جرت بالدار البيضاء مع فارق تمثل في أن كل مقاومة من قبل الأوربيين بالداخل لا فائدة منها لأنهم في قبضتهم.
وأخيرا اندحار أو ردة القوات المكونة من حوالي 3000 عنصر مسلح من النهاب الخطيرين الذين كانوا مثل الذين كانوا بالدار البيضاء متحالفين مع عناصر من البربر والبدو من أجل النهب والسلب.
البربر بعد الاندحار والتخلي عسكروا في المصلى محاصرين القصر، ثم انتقلوا لباب بوجلود حيث دار الوزير الكبير والقنصلية الفرنسية، ولوحظ أن اندحار النهاب يتضمن بالضرورة قتل المدربين المعسكرين خارج المدينة إما من الثائرين أو من المتطوعين غير النظاميين.
لم يكن لي في هذه الأزمة سوى الكراء لدى زملائي الأجانب، حيث لاحظ الجميع تجنب التضامن مع العناصر الفرنسية الأكثر إدراكا للوضعية.
في الحقيقة المتعصبون هيجوا الشعب وعبأوه ضد الأجانب دون تفريق بين الجنسيات مثل ما تم في الدار البيضاء سنة 1907، البربر بالكاد يعرفون الأسماء الأساسية للدول الأوربية، ويجمعون الكل تحت صفة النصارى، والوضعية المنتقدة للمواطن الأمريكي بمكناس خير دليل على ذلك.
أشير أيضا إلى نقص الذخيرة الذي عانينا منه، وفاقم الخطر المحدق بالأجانب، كما لا يجب نسيان طبيعة البيئة الديمقراطية للبربر، حيث يتوفر رؤساؤهم على سلطة وإن بدت ضيقة إلا أنها منعت نهب مكناس بالرغم من أن عصاة مخيم راس الما سلبوا مبعوثي مولاي ادريس لمراني الذين قدموا للتفاوض معهم وأعادوهم إلى فاس عرايا، سخرية ممن بعثهم؛ وهذا وضع غريب عن المغرب، حيث كلمة الشرفاء مسموعة، سواء بين المتصارعين، أو عند المخزن.
عمل آخر تم في هذا الصدد، وهو أن القائد الأساسي لرؤساء الثوار عقا البودماني، عندما أدانت الجموع البربرية الغاضبة حامل رسالة لأحد أعوان المخزن، حكم عليه بغرامة حالة قدرها 500 دورو.
رؤساء مماثلون وبالأحرى مولاي الزين أراد كبح الانفعالات التي تؤدي للاندفاع الذي سبق القتل والنهب.
يتبع..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *