انتشار قوات الغزو الفرنسية في قبيلة ازعير، لم يتم دفعة واحدة، وإنما على مراحل بواسطة تثبيت مراكز لحماية الطريق الرابطة بين مكناس والرباط عبر تيفلت وسوق أربعاء زمور التي صارت تعرف بالخميسات، وبين الرباط والقنيطرة عبر غابة معمورة التي شكلت ملجأ للمقاومة، وقد عملت قبيلة زعير على محاصرة المراكز الرابطة بين الشاوية وتيفلت، وشن الغارة تلو الأخرى عليها.
وقد أورد القبطان سيصالدي في كتابه السالف الذكر «بلاد البارود» نماذج من ذلك، مركزا على عمليات بني حكيم التي كانت تحاصر مراكز الفرقة التي ينتمي إليها في كل من مغشوش ومشرع لمعازيز وعركوب السلطان وعين الصباب والزيتونة، وغيرها من مراكز الرصد والاستطلاع والدعم والتموين؛ وأن بني حكيم وزعير نُهّاب مخيفون يستولون على كل ما يقترب من جبالهم في الجنوب أو الغرب، بالوادي المشجر أو وادي تانوبير وبوركراك اللذين تختلط مياههما بسرعة، واد حيث تتقاطع في أعلاه عدة طرق ذاهبة لزيان وزعير.
نحن نريد من تواجد مراكزنا داخل زعير، إفهام القبائل الخارجة المتمردة في هذه البلاد الوعرة، أنه ينتظرها معنا مستقبلا أحسن أمنا وثقة على مزروعاتها ومواشيها، لذلك لم ننس لحظة أننا وجه لوجه مع الأعداء في رصد متقدم لتحركهم على بعد 28 كلم جنوب تيفلت ولمعازيز، في اتصال مع زمور بالجنوب والغرب من جهة، وزعير من جهة أخرى، الذين تقسمهم نزاعات ومشاحنات قديمة طبعا، فقبل وصولنا بيومين وجدت زمور عشرة قتلى منهم، على يد جيرانهم زعير، لكن كره الرومي لن يوقت حدا معينا لوضع حد للفتن الدموية التي يثيرونها ضدنا سواء كانوا متفقين أو مختلفين، وأن مصالحة هؤلاء الأجلاف البرابرة، لن تؤدي بهم إلى عدم التآمر علينا، والتعاون فيما بينهم ومع غيرهم ضدنا، لذلك لا نعتمد إلا على أنفسنا في مواجهة قسوتهم وتعصب قادتهم، فنحن نعرف أن الدواوير التي عادت إلى مضاربها حول مراكزنا، متخذة من الربوات مستقرا لها، لتراقب مركزنا مثلما نفعل نحن معها، ولو كانت متظاهرة بالخضوع والطاعة، مثلها في ذلك مثل بني حكيم وزمور في الجنوب، وزعير في الغرب، الذين هم بدورهم يراقبوننا في تخف، إنهم مفتحو العيون، في ترقب عادي الانفعال، دون أن تكون حياتهم عادية.
لقد تمت إقامة معسكر مرشاند في المكان الذي قتل فيه هذا الضابط، ضم أربعة أفواج ومدفع، بيد أنه حوصر بمجرد مغادرة كولون موانيي، إثر انتهاء معركة كلتة الفيلة، ورجوع السكان الذين كانوا غادروا أماكن سكناهم عند قدوم الكولون، ونشوب المعركة لمضاربهم، فبدأنا في إقامة دفاعاتنا تحسبا لهجوم وشيك، وهو ما تم بالفعل. (ص.107-109)
في 20 يوليوز، تم افراغ معسكر عركوب السلطان في الصباح الباكر، وقد اتجهت قافلة الكولون الرحل لعين السبت، زعير يفضلون القتال في السهل، وطلقاتهم تذهب للأعلى، لذلك قطعنا الطريق تحت مراقبة فرسانهم من بعيد دون أن تطلق منهم علينا رصاصة واحدة، إذ ليس لهم في ذلك الوضع إلا الفرار حذرا من بنادقنا، لذلك لم نكن قلقين من مرافقتهم لنا ونحن أسفل منهم، لكن كان الواجب علينا في ظرف عشرة أيام، تأمين التنقل نحو مؤخرة الكولون، لتزويده بالمؤونة وشرائها من الناحية.
يوم 12 شتنبر 1911، أخبر الكومندار بأن بني حكيم يهيؤون هجوما على المعسكر في الليلة القادمة، فقمنا بتقوية الحراسة الداخلية، وحوالي منتصف الليل انطلقت نيران البنادق بغتة قربنا من مركز متقدم رقمه 5، فقام من فيه جماعة بالتصدي للأعداء حيث كان الرصاص يتشابك فوق الرؤوس من شدة التلاحم، وفشل الهجوم وابتعد المغيرون، ثم تجدد القتال في الغد ليلا وتم نفس الشيء. (ص.119)
في 23 شتنبر، جاءتنا معلومات متطابقة من مصادر مختلفة بقرب هجوم وشيك كبير على مراكزنا المتقاربة من عدة جهات في الليالي القادمة، فتم تعزيز قواتنا التي لوحظ عليها أن معنوياتها أخذت تضعف يوما بعد يوم بفرقة من القناصة السنغاليين بعث بها من تيفلت، وقد سبق أن قلت بأن المغاربة جيدو الرماية يصيبون بشكل جيد على بعد 600 و700م لذلك فهم شديدو الخطورة إذا ما اقتربوا من الهدف، ونشير لدور الطبيب العسكري الذي يغزو لصالح فرنسا مثلما يفعل الضباط والجنود، كما أن نساء زمور وزعير كن يصاحبن رجالهن القساة جماعات، يثرثرن ويضحكن في حراسة جماعات من المراهقين المبتهجين، بيد أنه لا يوجد بينهن إلا القبيحات والمسنات، أما الجميلات الصغيرات، فيبقين في الدواوير، بعيدا عن الأنظار المتطفلة، ودواعي الإغراء. (ص.115)
وتجدر الإشارة إلى أن الغزو الفرنسي للعاصمة المغربية، واختراق قبيلة زعير، والتحرك شرقا لاجتياز ملوية لاحتلال ممر تازة، وما رافق ذلك من مقاومة مسلحة، وتحرك دولي باعتبار ذلك مخالفا لبنود عقد الجزيرة الذي يقر استقلال المغرب وسيادة السلطان، جعل معارك المغرب من 1907 إلى 1912 -كما جاء في تقرير الإقامة- كانت تنظر للتنافس الدولي المتكاثر المعتمد على التوافق، لذلك كان التحرك الفرنسي بالمغرب محروما من التماسك، بحيث كانت حركتنا العسكرية غير مترابطة مع جهودنا الدبلوماسية التي كان يقودها بطنجة وزير فرنسا رونو، مما انعكس على التحركات العسكرية المعاقة بسبب استيحائها التعليمات الصادرة منه ومن الجهات المماثلة التي تتحرك وفق تقديرها للصعوبات التي تواجهها على الأرض من طرف ممثلي ألمانيا، هذا العيب الخطير رافق المراحل الثلاث الكبرى التي مر منها التدخل الفرنسي بالمغرب قبل فرض الحماية عليه، فكان من اللازم وضع العمليات العسكرية والحركة الدبلوماسية في يد واحدة مختصة، ووضع في الأذهان الرغبة في إنهاء حالة التردد وعدم المسؤولية خلافا لما كان العمل به في مستعمرات فرنسا السابقة. (La Renaissance du Maroc Dix ans de Protectorat – P.82)
وقد ترجم ذلك في الرسائل والتقارير كالتالي:
جاء في رسالة من دوبيليي لوزير الخارجية، رقم:257، ص.262:
طنجة، 6 ماي 1911:
أحيطكم علما بأن القبطان مورو أخبرني بأنه لم ينظم دورية ولا تجولا في مدينة القصر، الرجال الثلاثون المصاحبون له، والذين هم من الطابور الشريف بطنجة، مخصصون فقط لحراسة مستودعات الذخيرة والسلاح، كيفما كان الأمر فأنا أستدعي القبطان لتقييم رسائل الخروج للمنطقة الإسبانية مع ضباطهم، كما أستدعيهم أيضا لبعث مدربين للقصر من أجل أداء أجور الجنود القاطنين هناك.
وفي 7 ماي 1911، بعث برسالة رقم: 260، من طنجة لوزير الخارجية، جاء بها:
توصلت برسالة من كيار عن طريق تاوريرت غير مؤرخة أرسلت في 30 أبريل، كثير من المسافرين أميون، حاولت الاتصال عن طريق تاوريرت مع قنصلنا باستخدام متنقلين من شرفاء وزان، كل يوم تزداد الوضعية سوء، جنود كولون بريموند قاموا بالتواصل مع سكان العاصمة فاس بمجرد عودتهم، ومع جموع محلة بن الجيلالي الذين بدأوا يتذمرون ويحتجون على المخزن الذي لم يوفر لهم تموينا نقديا لأداء رواتبهم مما يطرح عدة مشاكل.
المواصلات مقطوعة من جميع الجهات، السلع لا تجد مشترين، لأن الجنود لم يحصلوا على مرتباتهم فأحدثوا اضطرابا وفوضى في البلد، قادتهم صرحوا بدورهم بأنهم يعتبرون مولاي حفيظ هو السبب في هذا الضياع، لأن الحصار لا قبل لهم بتجاوزه وكسره، وأن المدينة لن تقاوم أكثر من 15 يوما، لا جديد من طنجة، نحن في بلبلة واضطراب كبير. (ص.263)
جاء في رسالة من المكلف بالمصالح الفرنسية ببرلين إلى وزير الخارجية الفرنسي، رقم:318، ص.308:
برلين 28 ماي 1911:
كتبت «لاكازيت ألمانيا الشمالية» هذا الصباح في عددها الأسبوعي ما يتعلق بدخول القوات الفرنسية إلى فاس: «دخول القوات الفرنسية إلى فاس أوضح بصفة جلية أن الأوربيين بها يقيمون في وضعية جيدة، وأن زحف الجنرال موانيي نحو العاصمة بعد تردده في البداية لقي طبعا مقاومة حقيقية من القوات الأهلية بكثافة، القوات الفرنسية لم تنهج طريقة احتلال فاس، بل أقامت معسكرها خارج أسوار المدينة.
في نواحي ملوية هناك جيوب مناوئة للقوات الفرنسية أدت إلى قتلى وجرحى، القوات الفرنسية صدرت لها تعليمات بالبقاء هناك على ضفة النهر».
وفي رسالة من دوبيليي لوزير الخارجية الفرنسية، رقم:321، ص.310:
طنجة 29 ماي 1911:
أبعث لكم بالمعلومات التالية حول الفتان الذي قتل في ناحية الغرب.
بعد المعلومات المتوصَّل بها من ممثل الحكومة بوجدة، هذا الفرد ليس سوى الحاج عبد القادر بوحصيرة من قبيلة بني عتيق (بني يزناسن) سكن مؤخرا في بني بوفراح فخدة الريف قرب باديس، الروكي الجديد أحمد لعروسي الذي استجاب لدعوته بني مستارة وكذلك الرحامنة وأهل سريف، وقد انضم إليه متطوعون استعدادا لدخول مدينة القصر.
وفي 15 يونيو 1911، بعث دوبيليي من طنجة برسالة لوزير الخارجية الفرنسية، رقم:380، ص.360، جاء بها ما يلي:
أبعث لكم بتقرير الجنرال موانيي المؤرخ في 10 يونيو 1911، من مكناس:
النجاح العسكري الذي تم في الأيام الأخيرة متواصل، ومنذ أول أمس يسود الهدوء التام حول مكناس، قبائل كروان وعرب سايس قدموا للتفاوض على خضوعهم، مركز انزالة بني عمار أخبر بأن هناك تطورا في زرهون، وفي اشراردة الهدوء تام.
قمنا اليوم بزيارة لباشا مكناس، وهناك وجدت لديه جمهرة من المسلمين والفقهاء والعلماء الذين بايعوا مولاي الزين، الذين استدركوا الصياغة التي تعيدهم دون تخصيص حكومة مولاي حفيظ.
غدا سأقوم بزيارة انزالة بني عمار، وألتقي سكان ازراهنة التي لم أزرها بعد.