إلى المؤتمر الإسلامي العام بالقدس الشريف سنة 1931م
1/3
إن الآليات التي اعتمدها الاحتلال لضرب المرتكزات الإسلامية بالمغرب ليسهل احتلال أرضه، واستعباد سكانه باسم التمدين والتحديث والتقدم، هو ما يتكرر اليوم مع دعوى الحرب على الإرهاب و باسم الحداثة والعولمة.
فحملات التنصير، وتدمير البنيات المعرفية المتمثلة في إحلال قوانين وضعية محل القوانين الشرعية، والعمل على إبادة التعليم الإسلامي، واللغة العربية، والمعتقدات الإسلامية، من خلال الترويج للخمور الانحلال والدعارة، ونشر ثقافة القيم الغربية، والدعوة للنزعات العرقية والعصبية، كل هذا يتكرر اليوم وبصور أقوى من التي انتهجها المحتل وهو بصحبة جيوشه الغاصبة.
وقد نشر الأستاذ إدريس كرم والدكتور لطفي حضري كتيبا تحت عنوان: “مراكش (المغرب) أمام حرب صليبية جديدة.. بيان مختصر من الأمة المراكشية”، وهذا البيان (بيان مختصر من الأمة المراكشية) قدمه باسم الأمة المغربية الشيخ المكي الناصري إلى المؤتمر الإسلامي بالقدس الشريف سنة 1931م بيَّن فيه الآليات التي اعتمدها الاحتلال لضرب المرتكزات الإسلامية بالمغرب ليسهل احتلال أرضه، واستعباد سكانه باسم التمدين والتحديث والتقدم.
وقد قدم الناشران البيان بمقدمة طويلة ذكرا فيها أساليب الحرب الصليبية على أمة المغرب، عبر إلغاء القضاء الإسلامي، وتنصير المسلمين، واستهداف برامج التعليم الدينية، واستغلال آلية الإعلام، ونشر أشكال الفساد التي تخرب القيم الإسلامية وتنشر قيم التبعية المادية للغرب عبر نشر تعاطي الدعارة والخمر والمخدرات والقمار والشذوذ..، كما ذيلا البيان بخاتمة طويلة بينا فيه ضرورة حضور الفهم والوعي المسؤول عند كل مسلم كي لا يستهدف دينه من طرفه، فكل مسلم على ثغر من ثغور الإسلام ينبغي له أن لا يؤتى الإسلام من ثغره، ولا يتم ذلك إلا بفهم اللعبة الصليبية-الصهيونية في إفساد أمة الإسلام، ويقوم بدوره في الدفاع عن عقيدته ودينه..
وبدورنا في جريدة السبيل سنقوم بنشر نص البيان تعميما للفائدة وحفاظا على الذاكرة التي يعمل البعض على تخريبها باسم الدعوة إلى نبذ الحقد والكراهية، وهذا نص البيان:
بيان مختصر من الأمة المراكشية
إلى المؤتمر الإسلامي العام بالقدس الشريف سنة 1931م
“بسم الله الرحمن الرحيم
حضرات أعضاء المؤتمر الإسلامي، تتقدم إليكم أمة المغرب الأقصى بتحيات طاهرة، وتعاهد الله أمامكم على أنها ستبدل جهودها في حفظ الجامعة الإسلامية، وتحقيق الوحدة العربية، وتشهد الله على أنها ملتزمة بالسعي إلى تنفيذ مقرارتكم، وخدمة مبادئكم وعلى أنها لا تبتغي غير الإسلام دينا.
أيها السادة: إن الأمة المراكشية، أمة قوية الإيمان، شديدة الإخلاص للإسلام، وما عليكم إلا أن تساعدوها على استرداد حريتها الدينيةـ حتى تروا منها عضدا معاضدا، وساعدا مساعدا، وأن أمة قضت زهرة حياتها في خدمة الإسلام ونشره وراء حدودها شرقا وغربا شمالا وجنوبا، لهي أمة جديرة بحرص المسلمين على استحيائها، ودفاعهم عن كيانها، وحراستهم لإيمانها وإسلامها، لا سيما وأبناء هذه الأمة، شيوخا وشبانا مستعدون للتضحية في سبيل المصالح الإسلامية، بكل ما يستطيعون، وهم يعلمون أن مؤتمرهم العظيم سيقرر قرارات خطيرة يجب على الجميع أعضاء العالم الإسلامي أن يقوموا بمساعدتها والعمل لتنفيذها وليس أمام الأمة المراكشية مانع يمنعها عن العمل في الدائرة الإسلامية الكبرى، ويغل أيديها عن تقديم المعونة الواجبة، إلا مانع الاستبداد والاضطهاد: استبداد فرنسا واضطهادها القاسي الشنيع، فحق عليكم أيها السادة المحترمون، أن تسعوا سعيا حثيثا لكسر أغلالها وفك قيودها، وحق عليكم أن تجعلوها متمتعة بحريتها الدينية، خادمة لعقائدها ولدينها ومبادئها، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون.
يا حضرات الأعضاء المحترمين: إن فرنسا لأول ما اتصلت بالمغرب، اضطهدت الأمة المغربية، وسلبت حريتها الدينية. فعندما بسطت حمايتها، وفرضت سلطتها، اتخذت لها منهجا جديدا في السياسة، وسلكت طريقا لم تسلكه أمة معتدية، من أمم الغرب الغاشمة، هذا المنهج يتلخص في إبادة العناصر العربية، هذا من أمة المغرب الأقصى، والسعي على محو الإسلام من هذه الأرض، التي نبتت فيها أعاظم الدول الإسلامية الكبرى، وتنشئة أجيال متفرنسة متنصرة مندمجة في العائلة الفرنسية المسيحية.
وجدت فرنسا عند الأمة المراكشية قضاء إسلاميا واسع السلطة، وتعليما إسلاميا شائعا في جميع الأوساط، ووجدت عند المغاربة تشبتا بهذا التعليم، وحرصا على ذلك القضاء. فالتزمت في عقد حمايتها “بالمحافظة التامة على دين المراكشيين” وتقاليدهم ومؤسساتهم الدينية، ولكن هذا الالتزام كان عبارة عن مناورة في الألفاظ لا أقل ولا أكثر.
إبادة الشريعة الإسلامية
فلم تمض سنة على بسط حمايتها، حتى جمعت لجنة في باريس، لوضع قوانين فرنسية، تمهيدا إلى إنشاء المحاكم الفرنسية على أنقاض المحاكم الإسلامية، وقد قامت هذه المحاكم، على أساس خدمة المصالح الاستعمارية للفرنسيين والأجانب، وإدماج أهالي البلاد في العنصر الفرنسي، من طريق إدخالهم تحت القوانين الفرنسية وفصلهم عن سلطان الإسلام فصلا نهائيا، ومنذ تأسست هذه المحاكم التي تحكم بقوانين فرنسية، ويتولى الفصل فيها القضاة الفرنسيون دون سواهم وفرنسا توالي حملاتها على القضاة الإسلامي. الذي يقوم على القوانين الإسلامية والذي يمثله قضاة مسلمون، وأول حملة وجهت إلى قضائنا الوطني الإسلامي، أن أخرج القضاة المسلمون من ميزانية الدولة المغربية، ولم يبق لهم نصيب في مال الدولة الشريفية أيا كان وأصبحت محاكم القضاء المغربي لا وجود لها، وأصبح القاضي المسلم يتولى فصل القضايا في بيته ومنزله، أو في خيمته التي يتنقل بها من مكان إلى مكان، أما في المدن الكبرى فيعقد جلساته في بعض منازل الأوقاف الإسلامية القديمة، ومنذ بسط الحماية، وفرنسا تنتقص من حقوق هذا القضاء، الذي تتمثل فيه السلطة المغربية الإسلامية، إلى أن أصبح اليوم في المدن والقبائل العربية لا يتجاوز أقضية الطلاق والنكاح والإرث، وسلبت السلطة القضائية كلها من أيدي المسلمين، ووضعت كلها في أيدي القضاة الفرنسيين، ولم تفكر فرنسا طول هذه المدة في إجابة رغبة المراكشيين التي ألحو فيها غير ما مرة، فقد طلبوا إصلاح القضاء الإسلامي وتوزيع اختصاصاته على عدة محاكم إسلامية مع الاحتفاظ بهذه السلطة الإسلامية، لأهالي البلاد المسلمين ولكن فرنسا التي أخذت على نفسها إبادة الشريعة الإسلامية من بلاد المغرب، وإدماج المغاربة جميعا في العنصر الفرنسي لم تلفت إلى إجابة رغبات الأمة المغربية المسلمة ولم تهتم بما في هذا العمل من مخالفة صريحة، كما التزمت به في عقد الحماية، من المحافظة على المؤسسات الإسلامية ورعايتها تمام الرعاية.
وأضافت فرنسا إلى هذه الحملات الشنيعة عملا جديدا قوضت به كل ما بقي للقضاء الإسلامي من سلطة السنة الماضية أصدرت أمرا إلى القضاة المسلمين تأمرهم فيه بأن لا يقبلوا إسلام أي شخص سواء كان يهوديا أم نصرانيا، وتقدم عدة أشخاص من اليهود والمسحيين إلى المحاكم الشرعية، راغبين الدخول في دين الإسلام فما كان من حكومة الحماية، إلا أن أمرت بامتناع القضاة عن إجراء شرعي في هذا السبيل وحدث أن قاضي مدينة الرباط قبل إسلام مسيحي مشهور له ماض معروف في خدمة المسيحية فكان ذلك سببا في تهديده بالعقوبات الشديدة وتوبيخه من “الإقامة العامة” توبيخا خاصا.
ثم امتد هذا البرنامج على القبائل البربرية، فطرد منها القضاة الشرعيون جميعا، وبدأت فرنسا بذلك في عشرين قبيلة كبرى منها قبيلة تالشوت، آيت هودى، آيت يعقوب وعيسى، آيت احمد وعيسى أيت إسحاق، آيت شمخان، آيت يحيى، آيت بوزيد، آيت عباس، آيت حماد، آيت أجناد، قصبة شقيري، قصبة مح، خنيفرة، آيت سكوكو، آيت مغنى، آيت مكليد. ولا يزال كثير من قضاة هذه القبائل المطرودين على قيد الحياة.
وفي السنة الماضية اتسع هذا البرنامج اتساعا وصدر مرسوم يقضي بإلغاء جميع المحاكم الإسلامية بين جميع القبائل البربرية التي تتكلم باللسان البربري، وأقامت محاكم فرنسية تحكم بالقانون الفرنسي، وخليط من عادات البربر فيما قبل الإسلام. واعتبار الأكثرية الساحقة من المراكشيين خارجين عن قانون الإسلام في جميع قضاياهم، حتى قضايا الأحوال الشخصية، وقد أصبحوا الآن بفضل هذا القانون المجرم، يعاقبون بكل أنواع العقاب، إذا تزوجوا أو توارثوا طبقا للدين الإسلامي.
أما ما تسميه فرنسا بـ”القانون البربري” فقد دل البحث والمشاهدة، على أنه من صنع الخيال والأهواء المغرضة، ذلك أن الباحثين من الفرنسيين أنفسهم يعترفون بأن سكان الأطلس الأعلى، وسكان السلسلة الجنوبية من سلاسل الأطلس، لا يعرفون من القوانين، إلا قوانين الإسلام، وأن عادتهم وأعرافهم ظلت تتأثر بالتعاليم الإسلامية شيئا فشيئا، إلى أن انمحى منها كل ما تخالف مع هذه التعاليم، وكل ما يذكرونه أنهم وجدوا بعض قبائل الرحل من برابرة الأطلس المتوسط، محتفظين بعادات قديمة، تخالف الإسلام بعض المخالفة، فاتخذت فرنسا من عادات بعض قبائل البربر، لا فرق بين برابرة الأطلس المتوسط والأطلس الأعلى والأطلس الجنوبي، وأضافت إليه شيئا كثيرا من الفروض والخيالات والحلول القانونية الفرنسية، وجعلت هذا الوضع مؤقتا وتدريجيا، لتنتقل بالبرابرة في وقت قريب، إلى القانون الفرنسي الخالص، وتصادر الشريعة الإسلامية من بلاد المغرب الأقصى، مصادر نهائية.
ومنذ نشرت فرنسا قانونها الجريء في مصادرة الشريعة من بين المسلمين في شهر مايو من السنة الماضية 1930، والأمة المراكشية، تجاهد بقدر ما تستطيع في سبيل مقاومة هذا القانون والقضاء عليه. وأعلنت الأمة، على لسان وفودها وفي مظاهرتها واحتجاجاتها. أنها لا ترضى قانونا غير قانون الإسلام. وأنها لا تبتغي غير الإسلام دينا (وسنعرض عليكم في التقرير المطول نصوص مطالب الأمة المراكشية. ومقدار ما بذلت من جهود الاحتفاظ بوحدتها ودينها) إلا أن فرنسا، صمت آذانها عن سماع أصوات الأمة المراكشية. ولم تقبل باحتجاجات العالم الإسلامي على سياستها هذه الخطة. ورصدت في الميزانية أموال كثيرة لتوسيعها وتغذيتها. الأمر الذي يدلكم أيها السادة. على مقدار ما تحمله فرنسا من احتقار لإرادة المسلمين، وازدراء بشعورهم وعواطفهم، وما تزال الأمة المراكشية ماضية في جهادها ضد هذه السياسة. وما تزال مغرقة في اضطهاد المسلمين المغاربة، بكل أنواع الاضطهاد إلى اليوم.