المسجد البابري في الهند رمز الدولة المغولية المسلمة التي أنشأها ظهير الدين بابر

قامت في النصف الأول من القرن العاشر الهجري دولة فتية في شمال شبه القارة الهندية، وأصبحت ثالث ثلاث دول- بعد الدولة العثمانية والدولة الصفوية- يشهد هذا القرن ميلادها. وقد نشأت هذه الدولة الفتية على يد “ظهير الدين محمد بابر”، وكتب الله لها أن تحيا ثلاثة قرون حتى اغتصب البريطانيون الهند كلها من أهلها بالدس والخديعة، وقد نعم الناس تحت حكم هذه الدولة بالعدل والأمن والسلام.

وتعود جذور ظهير الدين بابر إلى “تيمورلنك” الذي أقام دولة عظيمة امتدت من دلهي حتى دمشق، ومن بحيرة آرال إلى الخليج العربي، ولم تلبث هذه الدولة أن تفككت بعد وفاته بين أولاده، حتى أفلح حفيده السلطان “أبو سعيد ميرزا” في أن ينشئ له دولة امتدت من السند إلى العراق، وخلفه فيها أبناؤه العشرة، واختص عمر شيخ ميرزا- والد ظهير الدين بابر- بإقليم فرغانة بأقصى الشمال الشرقي من بلاد ما وراء النهر.
المولد والنشأة
ولد ظهير الدين سنة (888هـ/1418م) في إمارة فرغانة التي كان يحكمها أبوه عمر شيخ ميرزا، وكان حاكمًا طموحًا؛ دخل في صراع مع جيرانه من المغول-وكانوا أصهاره- ومع إخوته من أجل توسيع سلطانه ومد نفوذه، لكن المنية بادرته قبل أن يحقق أطماعه؛ حيث سقط من فوق حصن له قتيلاً، وخلفه ابنه ظهير الدين على ملكه، وكان صبيًا صغيرًا في الثانية عشرة من عمره.
تولى ظهير الدين حكم فرغانة سنة (899هـ/1429م)، وورث عن أبيه خلافاته وصراعاته مع جيرانه، ولم يكن لمثل هذا الصبي أن يتحمل تبعات إمارة يتربص بها جيرانها، لكن من حوله أداروا له دفة الأمور، وساعدوه في حكم البلاد، ولم تكد تمضي سنوات قلائل حتى انقض على “سمرقند” فاستخلصها لنفسه من أيدي أبناء عمومته، واتخذها عاصمة لدولته، كما كانت من قبل حاضرة لجده تيمورلنك.
شخصية بابر
يعد ظهير الدين بابر من كبار القادة والفاتحين في تاريخ الإسلام، نجح في إقامة دولة كبيرة بهمته العالية وروحه الطامحة وإصراره الدائب، تعرض لمحن كثيرة وهو لا يزال صبيًا غض الإهاب فقابلها بثبات الأبطال، وبقلب لم يعرف اليأس إليه طريقًا.
يذكر له أنه كان يقود جندًا من مختلف الأجناس، من مغول وترك وأفغان لكنه نجح في قيادتهم، وقضى بعزيمته وحكمته على بوادر أي تذمر في مهده؛ ولذا نجح فيما عجز عنه غيره في مواصلة الفتح في بلاد الهند.
وعلى الرغم من قصر المدة التي مكثها في الهند فقد اجتهد في إصلاح نظم الإدارة، وبناء دولته، فشق الطرق، وحفر الترع والأنهار، وأقام عددًا من البساتين وجلب لها صنوفًا من الثمار والنباتات لم تكن الهند تعرفها من قبل.
ولم يكن بابر قائدًا عظيمًا وفاتحًا كبيرًا فقط، بل كان أديبًا موهوبًا كتب سيرة ذاتية لنفسه باللغة التركية باسم “بابرنامة” ضمنها ترجمة لحياته وعصره، وذكر فيها ما قابله من أحداث وحروب، واتسمت تلك السيرة بالصدق مع النفس وغيره، فلم ينكر فضيلة لعدو أو يخفي رذيلة لصديق، وقد ترجمت هذه السيرة إلى الفارسية وإلى عدة لغات أوروبية.
وفاته
بعد أن انتصر بابر على الأفغان لم يمتد به الأجل فتُوفي في (5 من جمادى الأولى 937هـ/22 من فبراير 1530م) وهو في الخمسين من عمره، ولم يكن قد مضى عليه في الهند أكثر من ست سنوات.
الهندوس والمسجد البابري
المسجد البابري الواقع بمدينة “إيودهيا” في شمال الهند، يعود تاريخه إلى القرن السادس عشر، عندما بناه “ظهير الدين بابر”، وفي أوائل الثمانينيات من القرن العشرين اكتشف المتطرفون الهندوس قضية هذا المسجد، ونسجوا زعمهم الكاذب بأنه بُني على أنقاض معبد بمكان مولد “راما” الأسطوري المقدس لدى الهندوس، ولذا وجب نسفه والتخلص منه.. وجعلوها قضية شعبية، وقضية عامة للهندوس، وبدؤوا ينظرون إلى هذا المسجد كأنه علامة وشعار للغزو المسلم لهذه البلاد وكانت أحداثه بالفعل بداية مرحلة تصاعدية جديدة من تطرف الهندوس وعدائهم للمسلمين، وكانت إيذاناً بحملة هندوسية دعائية، زعمت أن كل مساجد المسلمين العتيقة قد بنيت على أنقاض معابد الهندوس، وهي الحملة التي سوغت هدم المسجد البابري في السادس من ديسمبر عام 1992، وما أعقبه من صدامات دامية أودت بحياة ألفي مسلم.
سلسلة من الاعتداءات
وتعود بداية العدوان على المسجد البابري إلى ما يزيد على نصف قرن، ففي ليلة 22 ديسمبر 1949 هجمت عصابة مكونة من 50-60 هندوسياً على المسجد البابري ووضعوا فيه أصنامًا لذاك الممجَّد لديهم المسمّى “راما”، وادعوا أن الأصنام ظهرت بنفسها في مكان ولادته (!)، وهو ما اضطر الشرطة إلى وضع المسجد تحت الحراسة مغلقا لكونه محل نزاع. وفي 3 نونبر 1984 سمح رئيس وزراء الهند الأسبق “راجيف غاندي” للهندوس بوضع حجر أساس لمعبد هندوسي في ساحة المسجد، وتبع هذا حكم صادر بمحكمة فايزباد بتاريخ 1 فبراير 1986 من طرف القاضي “ر.ك. باندي” –الذي أصبح عضواً في الحزب الحاكم حزب “ب.ج.ب” المسؤول عن هدم مسجد بابري– سمح فيه بفتح أبواب المسجد للهندوس، وإقامة شعائرهم التعبدية فيه، وحذر السلطات المحلية من التدخل في هذا الشأن.
الصراع على أرض المسجد:
بعد هدم المسجد تمامًا عام 1992م بدأ الصراع على أرض المسجد، والذي لم ينته حتى الآن! إلا أن ستاراً من الصمت المطبق أسدل على هذه المأساة خلال السنوات الأخيرة، فالجانب الهندي يحرص على التزام الصمت حول قضية الاعتداء الوحشي على المسجد والمسلمين كيلا تتشوه سمعته، فالهند تتغنى بالعلمانية وبالتعايش مع الأقليات.
أما الجانب الإسلامي فإنه انقسم إلى فريقين: فريق يدعو إلى ابتلاع القضية برمتها بدعوى أن إثارتها لن تؤدي إلا لمزيد من المشكلات للمسلمين. وفريق آخر استنكر وعارض حركة هدم المسجد، وإقامة المعبد الهندوسي مكانه.
انحياز رسمي سافر للمتطرفين:
الانحياز السافر من قبل حكومة نيودلهي إدارة وقضاءً مع الهندوس لا يخفى على أحد، فقد كشف رئيس الوزراء “واجبائي” في أواخر عام 2000م عن وجهه القبيح وموقفه من قضية المسجد البابري عندما قال: “إن بناء المعبد الهندوسي مكان المسجد البابري يأتي تعبيرًا عن الأماني القومية، وأنه برنامج لم ينته بعد”.
وصرح بتاريخ 25/2/2003م قائلاً: “أتمنى أن أرى المعبد الهندوسي مشيدًا وفي أقرب فرصة ممكنة، لقد وعدت خلال حملتي الانتخابية عموم الناخبين أنني سوف أبني المعبد إذا وصلت إلى الحكم وسوف أوفي بعهدي”.
وخلال الحملة الانتخابية لصالح الحزب الحاكم بتاريخ 20/2/2003م قال واجبائي: “نحن نريد كحكومة وكحزب سياسي تعمير معبد رام على أنقاض المسجد البابري، وأنا على يقين بأننا سنجد من الشواهد التاريخية ما يصدق ادعاءنا في الأحقية بهذه البقعة”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *