عاشت الأمة الإسلامية في ظل تعاقب الخلافات على حكمها فترات من القوة والرقي والازدهار، فمن الخلافة الراشدة إلى الأموية إلى العباسية. ثم بعد هجوم التتر على ديار الإ سلام والذين قضوا على الخلافة العباسية، ما صدقت الأمة الإسلامية أنها تعيش بلا خلافة حتى قيض الله عز وجل عثمان(جد العثمانيين) وبنيه، فأقاموا الخلافة التي رفعت راية الإسلام عالية فوق جبال أوربا وآسيا وإفريقيا، وكان لها الفضل الكبير في صد العدوان على الإسلام من الشرق والغرب، ومن الداخل والخارج.
ثم دَبَّ الضعف والهوان إلى جسد هذه الخلافة لمّا غابت القيادة الربانية، وجُرد العلماء من مهامهم في بناء وإصلاح الفرد والمجتمع، وانحرفت الأمة عن مفاهيم دينها… كما تدخلت عوامل أخرى في إسقاط هذه الخلافة.
إن بدايات سقوط الدول ترجع بالخصوص إلى تمرد طائفة أو شعب أو فكر ضد حاكميها، وهذا الأمر معلوم عند من يدرس التاريخ. وإن من أهم أسباب سقوط الخلافة العثمانية اشتعال نار التمرد والخروج عن طاعة الخلافة. والسؤال الذي نود الإجابة عنه هو: هل كان للبنان دور في سقوط الخلافة العثمانية؟ وما مدى تأثير الطائفية في خدمة مصالح الأعداء؟
في عام 1516م سيطرت جيوش سليم الأول بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح على لبنان وعلى المناطق الجبلية من سوريا وفلسطين، وعهد بإدارة هذه المناطق لفخر الدين الأول وهو أمير من الأسرة المعنية (أسرة من أمراء الدروز من أصول كردية) الذي قدم الولاء للباب العالي. وفي 1590م عين السلطان فخر الدين الثاني واليا على تلك البلاد.
ثم اعتلت إمارة جبل لبنان الأسرة الشهابية زمنا، حتى ثار اللبنانيون على الأمير بشير الثاني في تحالفه العسكري مع ابراهيم باشا المصري (نجل محمد علي) وفي سياسته القمعية، خصوصًا بعدما شعروا أن أميرهم لم يعد يهتم بشؤونهم وأمنهم ومصالحهم، بل غدا مجرد أداة طيعة لتنفيذ أوامر والي مصر محمد علي ومصالحه ورغباته.
اغتنم العثمانيون هذه الانتفاضة ووجدوا فيها الفرصة السانحة لتقويض دعائم الإمارة اللبنانية. ومن جهتها اغتنمت الدول الكبرى بدورها الفرصة لتحقيق أهدافها في الشرق فبادرت بريطانيا بشدّ أزر الخارجين على الولاء للأمير ولاسيما الدروز منهم، ولم تتأخر في إرسال بوارجها إلى الشواطىء اللبنانية، وهكذا فعلت روسيا لتوطيد مكانتها كحامية للروم الأرثوذكس وأيضًا النمسا، أملا منها في حلولها محل فرنسا كحامية للطوائف الكاثوليكية.
حيال النقمة الداخلية العارمة وأمام تحرك الدول الكبرى وتدخل جيوشها المنتشرة على الساحل اللبناني التي سحقت قوات إبراهيم باشا المصري في قضاء المتن وتحديدًا في معركة بحر صاف في 1840م انهار الحكم المصري في لبنان وانسحب إبراهيم باشا (بعد أن حققت الدول الأوروبية أهدافها بواسطة عميلها محمد علي حان الوقت لإضعاف قواته وتحجيمها، فقد تحققت أهدافهم، ووصلوا إلى مقاصدهم) ونُفي الأمير بشير بيت الدين إلى صيدا في 1840م.
من خلال هذه الأحداث نعلم كيف استطاعت الدول الصليبية (قوى الشر) التدخل في لبنان بحجة حماية أتباعها بعدما صنعت خادمها الماسوني محمد علي بمصر، ودفعته لتوسيع أطماعه بالشام من أجل التدخل في سيادة الدولة العثمانية. وبالجزيرة العربية للقضاء على دعوة محمد بن عبد الوهاب رحمه الله. حتى يتسنى لهم القضاء على الإمبراطورية الإسلامية.
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر شرعت فرنسا وانجلترا تثير الفتن الطائفية (من عام 1841م إلى 1860م) بين الأقليات غير المسلمة في لبنان، الهدف منها إنهاك قوة الدولة العثمانية، وكذلك إيجاد المبرر للتدخل الفرنسي والبريطاني في لبنان تمهيداً لتمزيقه واحتلاله. هذه الفتن كانت دافعا للعثمانيين لإستدعاء عمر باشا واستبداله بمحمد باشا بعدما أرغم الباب العالي في كانون الأول 1842م على إبرام اتفاق مع الدول الأوروبية الخمس الكبرى وهي: بريطانيا والنمسا وروسيا وبروسيا وفرنسا، يقضي بتقسيم لبنان قائمقامتين: نصرانية يحكمها الأمير المسيحي حيدر اسماعيل أبي اللمع، ودرزية يحكمها الأمير الدرزي أحمد أرسلان. وجعلت طريق بيروت – الشام الحد الفاصل بينهما.
ففسِح بذلك المجال أمام تدخل الدول الأوروبية الخمس الكبرى التي عقدت مع تركيا عام 1856م مؤتمرًا سياسيًّا في باريس من أهم شروطه أن تسعى تركيا إلى تحسين حال رعاياها المسيحيين وتطبيق مبدإ المساواة بينهم وبين المسلمين.
وفي نتيجة هذا المؤتمر أصدر السلطان العثماني فرمانًا أعلن فيه المساواة بين جميع رعاياه وإلغاء الامتيازات السياسية والاجتماعية التي كان يتمتع بها المسلمون دون سواهم، فكان سببا لشتعال نار الفتنة بين جميع الطوائف.
بتاريخ 1860م أرسل الباب العالي وزير خارجيته فؤاد باشا إلى دمشق ليضع حدًّا للأحداث والاضطهادات وأعمال القتل والتخريب، فأتم عمله, ثم حاول الإتفاق سرًّا مع وزير خارجية بريطانيا اللورد DUFFERIN على تعيين أمير سردينيا حاكمًا للجبل ويكون هو نائبًا له (من هنا نفهم كيف استطاع الأعداء التغلغل في جسد الدولة العثمانية فأغروا ذوي القلوب المريضة حتى صاروا عملاء لهم وبواسطتهم صاروا يتدخلون في شؤون الدولة مباشرة) وطالب ممثل روسيا NOVIKOV بتقسيم لبنان ثلاث قائمقاميات مارونية درزية وارثوذكسية. أما بروسيا والنمسا فكان همهما الحلول محل فرنسا في حماية الكاثوليك والمحافظة على امتيازاتها في حين أصرت فرنسا على وحدة الجبل وتعيين حاكم واحد له ولسوريا هو الأمير عبد القادر الجزائري.
لكن تركيا رفضت كل هذه الحلول لأنها تخدم مصالح الأعداء سواء الثائرون عن الخلافة العثمانية، أو الدول الصليبية الطامعة. عندها اقترح وزير بروسيا الكونت GOLTZ بأن تكون إدارة جبل لبنان لحاكم مسيحي يعينه الباب العالي ويعود إليه وحده وذلك بالإتفاق مع الدول الخمس. وقد وافق الجميع على هذا المشروع الذي يتألف من 17 مادة (كلها لا تخدم العثمانيين) وتم توقيعه في 1861م وسمي بنظام المتصرفية، ومن أهم بنوده:
– أن يستقل لبنان استقلالا داخليًّا فقط عن حكومة الباب العالي وأن تضمن الدول الأوروبية الخمس هذا الإستقلال المحدود.
– أن يدير لبنان حاكم مسيحي من رعايا السلطنة العثمانية يحمل اسم متصرف يعينه السلطان بموافقة الدول الخمس لمدة خمس سنوات.
– أن يقوم المتصرف بجميع مهام حكومة لبنان فيحافظ على الأمن الداخلي ويعين القضاة والموظفين وينفذ الأحكام ويجبي الضرائب وينفذ المشاريع.
– أن يتألف مجلس إدارة من اثني عشر عضوًا تتمثل فيه جميع الطوائف على الشكل التالي:4 موارنة- 3 دروز- 2 روم ارثوذكس – 2 روم كاثوليك- 1 سني- 1 شيعي.
– أن تتألف ضابطة في لبنان من اللبنانيين فقط.
– أن تبقى بعض مظاهر السلطنة العثمانية تتمثل في العلم والعملة فقط.
انظروا إلى ما في هذه البنوذ من الحيف والظلم تجاه الدولة الأم، وما هذا المشروع إلا بداية تمزيق الدولة العثمانية التي دب إليها الضعف وتداعت عليها أمم الكفر من كل حدب وصوب تريد سهما يخدم مصالحها وتحطم من خلاله الخلافة الإسلامية.
إن الصليبية النصرانية عندما عجزت عن مقاتلة الدولة العثمانية في جبهات الوغى لجأت إلى تفجير الدولة من الداخل عبر العلمانيين وضعاف النفوس ممن ينتسبون إلى الإسلام ويظهرون شعائره وأضاعوا مفهوم الولاء والبراء في بحر شهواتهم وأطماعهم، فأشعلت نار الفتنة داخل ديار الإسلام لتدمير قوة الأمة البشرية والإقتصادية والأخلاقية لتصبح الأمة مؤهلة للسقوط بيد الأعداء.
وانطفأت على يد مصطفى كمال أبي العلمانيين شعلة الخلافة التي كان المسلمون طيلة القرون يستمدون من بقائها رمز وحدتهم واستمرار كيانهم. وكانت لبنان بعد ذلك فريسة من فرائس فرنسا بنص اتفاقية سان- ريمو التي قسمت بنوذها أشلاء هذه الخلافة.
استعمرت فرنسا لبنان, فقاومها أبناؤه الذين وعدتهم مرات وعودا كاذبة بنيل الحرية والإستقلال. وفي سنة 1941م أعلنت فرنسا استقلال لبنان غير أنها لم تكن راضية بالنفوذ الإنجليزي الذي يدعو إلى أن يكون لبنان تابعا لتوجه الدول العربية، وهذا ما لا تريده فرنسا التي حرصت على أن يبقى لبنان تابعا لها ولسياستها، هذا الأمر يتضح جليا إذا علمنا أنها عملت على ضم لبنان إلى المد الفرنكفوني (الفرنكوفونية غايةً هي إبقاء الدول الناطقة بالفرنسية تحت جناح الدولة الأم فرنسا، عن طريق جعْلِ اللغة والثقافة الفرنسيتين جسراً للتواصل والتبادل والتعاون).
لم يسلم لبنان من التدخلات الأجنبية بعد إعلان استقلاله عن فرنسا، خاصة مع استمرار الطائفية والصراعات الدولية التي تبددت في العديد من الأحداث، من أهمها أزمة 1958م (نتج عنها إرسال فريق من المراقبين الدوليين), إلى أن تفجرت الشرارة الأولى للحرب الأهلية سنة 1975م، فاتحة الباب على مصراعيه أمام الصراعات الداخلية والإقليمية والدولية في لبنان.
ومن التدخلات الأجنبية في الشؤون اللبنانية توافق “فرانسوا ميتران” و”رونالد ريجان” على إخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان في صيف العام 1982م وكبح النفوذ السوري فيه.
وضع قرار الأمم المتحدة رقم 1559 الذي يخدم مصالح إسرائيل، وتحريك القوى السياسية العميلة لخدمة المد العلماني التغريبي.
وها نحن اليوم مع حرب لبنانية مع العدو المحتل الصهيوني، تحركها القوى واللوبيات الدولية، فحزب الله الشيعي يخدم مصالح إيران في المنطقة، وفي الساحة الدولية (أزمة السلاح النووي)، ودول الشر الكبرى تدفع الهمجية اليهودية لتنوب عنها في نزع سلاح مقاومة حركة حماس، وإزالة “حزب الله” من الوجود، وما إقرار الدول الثمانية (G8) لعمل إسرائيل إلا تسويغ لقتل المدنيين الأبرياء الذين هم الضحايا في هذه الحرب المفتعلة لخدمة المصالح.
وطالما أن المكونات الطائفية والسياسية والثقافية اللبنانية تابعة أو موالية لجهات وقوى غير لبنانية، وطالما أن التركيبة اللبنانية تقوم على عدم الولاء للبنان أولاً، وطالما أن الإشتباك الإقليمي مازال مستمراً فلا شك أن لبنان ما زال قابلاً لأن يكون ساحة صراع للقوى الإقليمية والدولية مما يؤكد أن لا أمل في حل سياسي لبناني.