لأننا شعبان في شعب، وعيوش ينتمي للشعب المحظوظ، فقد سمح له النظام بتدريس الدارجة في 450 مؤسسة، حسب تصريحاته، دون أن يسائله أحد، أو تغلق مؤسساته بدون تصريح قضائي، أو خرق للقانون، كما حدث مع دور القرآن، وجمعيات المجتمع المدني التي تنتمي إلى الشعب المقهور.
ما غادر الاستخراب ديارنا إلا بعدما خلف خلفه جيشا من “المبشرين” بمخططاته، تحت لا فتات شتى، يجمعها كلها القضاء على أركان الهوية، الذي يؤدي بالتالي إلى تدمير الذات، لانبثاق أخرى هجينة، إن باسم التقدم أو الحداثة أو الكونية أو مصلحة الوطن أو غير ذلك.
وكان آخر هذه الأصوات، صوت عيوش الذي خرج فجأة، كمومياء من أحد الأهرامات، “ليبشرنا” بالقضاء على العربية الفصحى جملة وتفصيلا، باسم مصلحة الوطن، ولأنه لا يمثل في مجال الفكر شيئا يذكر، فإنه كان أكثر صفاقة في طرح ما يدمر تاريخا طويلا عريضا، حتى إذا ما فشلت أهداف الدافعين به لتحقيقها، لم يكونوا قد ضحوا برجل من الوزن الثقيل. لهذا فالخطير هو جر شخصيات أخرى لأتون هذه الفتنة من “وزن” عبد الله العروي، الذي بجلوسه مع أمثال عيوش في مجال يحتاج مؤهلات معينة، أضفى شرعية فكرية على من يفتقدها.
لقد خيب العروي ظن بعض من توسموا فيه خيرا، وهو المبرز في اللغة والحضارة العربية إذ لم يكن رده باردا فحسب، بل وقع في شباك شخص ليس بينه وبين الفكر، إلا بقدر ما يذر عليه من أموال، نعم لقد وقع في شراكه، لأنه تبنى جزء من مخططه الهدام، ونجح عيوش في أن يظهر للمتابع العادي أن الفرق بينهما شكلي ليس إلا، لأنه يريد الصعود من الأسفل، والعروي يود النزول من الأعلى، ليلتقيا في منتصف الطريق.
وهذا، فضلا على أن ما دار بين الرجلين لم يكن أبدا مناظرة، وإنما مجرد “حوار ودي”، لا يرقى إلى أن يكون مناظرة، لأنه حسب الفيلسوف طه عبد الرحمن فـ”مقتضى المحاورة أنَّه لا خطاب إلا بين اثنين، لكل منهما مقامان هما مقام المخاطِب ومقام المخاطَب؛ ووظيفتان هما وظيفة العارض ووظيفة المعترض”.
أما ما جرى بين عيوش والعروي، فصاحب الدعوى أصبح معترضا، والمخاطِب عارضا، بل إن الاعتراض أصبح موافقة، لأن العروي، وهو المفكر والمبرز في العربية وحضارتها، عوض أن يأتي على دعوى عيوش من القواعد، بالحجاج العقلي، والجدال المنطقي، وجدناه يستسلم كالمسحور، بدعواه إلى إلغاء المثنى وجمع المؤنث السالم والمفعول المطلق، كما دعا إلى “اجزم تسلم”، كي لا يكون ثمة إعراب، بدعوى التبسيط، حتى تصبح العربية مخلوقا مشوها أبتر، يسهل الإجهاز عليه، إذا ما تحقق لهم ذلك.
وكعادته، فقد تدخل أبو عصواد أشقاهم في هذا الماء العكر ليصطاد، واعتبر أن العروي يقرّ بوجود مشكل التواصل داخل أقسام الدراسة ولا يجد مندوحة من قبول فكرة عيوش بضرورة استقبال الطفل في السنوات الأولى من التمدرس بلغة الأم.
ولغة الأم هذه ليس المقصود بها عنده الدارجة العربية، بقدر ما يقصد بها الأمازيغية، التي يجعلها العدو اللدود للعربية الفصحى، لأن لغته الأم هذه يريد أن يعممها على المغاربة جميعهم، ولا أدري كيف يمكن أن تكون الأمازيغية هي لغة الأم لكل المغاربة، وإذا كان الأمر كذلك، فهل هي الأخرى ستدرس بالدارجة العربية، ليسهل إفهامها، وتيسير التواصل بها، بين المغاربة العرب؟
وكذلك ومثال بالنسبة للفرنسية التي تدرس في رياض الأطفال، يلزم حسب منطق دعاة التبسيط أن تدرس بالعامية العربية، فتصبح هذه الأخيرة هي المهيمنة، إن صدقت النوايا، لكن الحقيقة أن المستهدف هو الإجهاز على العربية، ليتسنى للأقلام والأصوات المشبوهة التفرغ المطلق لباقي أركان الهوية.
ولأننا شعبان في شعب، وعيوش ينتمي للشعب المحظوظ، فقد سمح له النظام بتدريس الدارجة في 450 مؤسسة، حسب تصريحاته، دون أن يسائله أحد، أو تغلق مؤسساته بدون تصريح قضائي، أو خرق للقانون، كما حدث مع دور القرآن، وجمعيات المجتمع المدني التي تنتمي إلى الشعب المقهور.
هل هذه الضجة الهدف منها جس نبض الشعب المغربي، واستشراف ردود الفعل، قصد تحديد الخطوة التالية؟
وهنا نتساءل مع “المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة”:
كيف يتم بناء لغة معيارية للأمازيغية من لهجاتها، في الوقت الذي تتم فيه الدعوة لتحويل اللغة العربية إلى دارجة؟
وكيف يمكن لوزير التربية الوطنية رشيد بلمختار أن يساند عيوش بالحضور في الندوة المشؤومة، بل ويصرح بوجوب أخذ مذكرته بعين الاعتبار!
وما المغزى من حضور الهمة وعزيمان؟
بل، وما المغزى من حضور شركات؟
هل هناك توجه نحو تغيير بعض دعائم الميثاق الوطني للتربية والتكوين لصالح الدارجة على حساب العربية الفصحى، إذا نضجت الظروف في مطبخ السياسة؟
وهل حضور الشركات يعني جعل المؤسسة التربوية مجرد مقاولة من المقاولات، تتلاعب بها الأيادي الجشعة للرأسمال المتوحش؟
إن المستهدف الأخير من خلال استهداف العربية الفصحى بالسهام المسمومة، توسلا بالدارجة تارة، والأمازيغية تارة أخرى، والفرنسية مرة ثالثة، هو الإسلام، وما اختلاف أزمنة وشخصيات هذه الفتن، إلا تبادل للأدوار، وتمويه عن المستهدف الحقيقي والنهائي.
فهذا شاعر ماركسي يدعى صلاح بوسريف سود مقالا مشحونا حقدا على مادة التربية الاسلامية باعتبار تسميتها التي، حسب زعمه، تلغي حق الأديان الأخرى في التدريس، متباكيا على عدم تدريس باقي الأديان، خصوصا اليهودية والنصرانية لاعتبارها كفرا.
وإذا لم تكن كفرا، فهل هي الإسلام، أم جزء منه؟
ومقابل الحرب الشعواء على العربية الفصحى، ومادة التربية الإسلامية، نجد من يدعو لتدريس المحرقة اليهودية المزعومة، ليتضح المخطط التدميري لكل ذي عينين، ولمن كانت له مسكة من عقل.
فهذا المدعو عبد الرحيم شهيبي يدعو بحماس منقطع النظير إلى تدريس المحرقة اليهودية المزعومة في مدارسنا، لأنه تلقى التعليمات حول هذه الدعوى، في مطبخ المؤامرة، “المتحف الأمريكي لحفظ ذاكرة الهولوكوست بواشنطن”، الذي نظم لقاء دوليا للمدرسين والفاعلين القياديين، ليتضح السياق الذي يناضل فيه أبو عصواد عندما انبرى للنضال ضد قانون تجريم التطبيع المزمع طرحه.
وفي نفس السياق دعت إحدى الشاعرات الأمازيغيات، والشعراء يتبعهم الغاوون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، إلى مقاطعة المساجد، بدعوى الاحتجاج على المساكن والبيوت الحاطة من الكرامة التي يقطنونها، ولم تدع إلى إغلاق الخمارات والحانات، بل وحتى الملاعب، فضلا عن تحويل مصاريف مهرجانات المكاء والتصدية، إلى بناء مساكن لائقة بالمواطنين، لأن دينها العلماني يمنعها من المس بمقدساته، كما دعا منذ سنين أحد المعتوهين إلى مقاطعة العمرة لأنها في نظره السقيم، ما هي إلا تبذير للمال فيما لا طائل من ورائه، دون أن ييمم وجهه نحو من يبذرون أموالهم في الجزر والمنتجعات العالمية فيما حرم الله.
والعروي نفسه الذي عول عليه البعض في الدفاع المستميت عن العربية الفصحى، بالنظر إلى تخصصه، كان هجومه أشد، قبل بضع سنوات، على جزء من ركن آخر من أركان الهوية، ألا وهو الحجاب، إذ قال حينئذ: “لنستأنس بالحجاب مثلا. في البداية كنت أجدني مستفزا، لم أكن أستطيع أن أرى حجابا -ذلك الذي أتانا من الخارج والذي لم يكن لنا عهد به في المغرب- على وجه فتاة في الجامعة أو امرأة تقود سيارة فارهة بممر الأميرات، دون أن ينتابني شعور عنيف. كنت أقول لنفسي: هذا، إذن، هو مآل نصف قرن من النضال النسوي. كنت أعتقد أن الدولة يجب عليها، على الأقل، أن تتبنى المقاربة التي تبنتها السلطات التونسية، أي منع الحجاب حيث يشكل خطرا على الأمن العمومي -حالة المرأة التي تقود السيارة- أو يسيء إلى الانسجام الاجتماعي من حيث أنه يضيف عنصر اختلاف آخر إلى مجتمع مقسم أصلا”.
عيوش يعمل جاهدا على تدمير العربية، والعروي يحاوره على هذا الأساس، بدعوى قبول الاختلاف والحرية في التعبير، لكن، أن تعبر المسلمة، حسب منطقهم، وإلا فالحجاب عبادة، عن دينها بلباسها، فهذا يستفز الدكتور بعنف، وتجده استئصاليا لحد النخاع، فضلا عن أنه لم يكلف نفسه، وهو الباحث الأكاديمي، الجلوس مع بعض أفراد الشعب المقهور ليستفسر، عن تشبثه بالحجاب، وعن حججه وردوده، كما فعل مع من يريد أن يصبح ويجد العربية سرابا يبابا.