الصمت المحمود المطلوب (تتمة)
– الصمت عن جواب السفيه، وعدم مجاراته في سفهه:
إن الجواب عن السفيه لاشك يفتح بابا للشر واسعا، وإن السفيه سهم في كنانة إبليس يشعل به نار العداوة، فمن الحكمة اتقاء ذلك الشر، وإخماد تلك الشرارة قبل أن تشتعل وتستفحل، بالصمت والسكوت، وفاقا لقول العليم الخبير: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} (فصلت: 34) وقوله: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن، إن الشيطان ينزغ بينهم، إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا} (الإسراء: 53).
وللإمام الشافعي رحمه الله، أبيات جميلة في هذه المعاني، يقول:
قالـوا سكت وقد خوصمت قلـت لهـم **إن الـجــواب لـبــاب الـشـر مفتـاح
والصمت عن جاهل أو أحمق شرف **وفيه أيضا لصون العرض إصلاح
أما تـرى الأسـد تُخشى وهي صامتة **والكلـب يُخسى لعمـري وهو نبّـاح(1)
فلا أحسن من الصمت جوابا على السفه والسفهاء، قال الشافعي أيضا رحمه الله:
إذا نـطـق السفيـه فلا تجبـه **فخـيـر مـن إجـابتـه السكـوت
فـإن كـلمـتـه فـرجـت عنـه **وإن خـلـيـتــه كـمــدا يـمـوت
سكتُّ عن السفيه فظن أنـي **عييت عن الجواب وما عييتُ(2)
الصمت عن دقائق العلم ومسائله الكبار، والإمساك عن الخوض فيها إذا لم يحن وقتها ولم يحضر أهلها.
إن الصمت في مثل هذا الموضع مظنة العلم وعلامة على بلوغ الرشد العقلي والعلمي؛ وقد نُقل عن أهل العلم والحكمة قولهم في هذا الشأن: «ليس كل ما يُعرف يُقال، وليس كل ما يقال حان وقته، وليس كل ما حان وقته حضر أهله».
وإنه من الغلط الفاحش الذي يقع فيه بعض من يتصدر مجالس الدعوة والوعظ، مخاطبة عوام الناس بمسائل في العلم والدين لا تبلغها عقولهم ولا تستوعبها أفهامهم، فعواقب هذا الأمر لا تُحمد.
فليُتنبّه أنه يتوجب التفريق والتمييز بين ما يصح ذكره وعرضه للناس في خطبة الجمعة مثلا أو في درس موجه لفئات مختلفة من الناس، وبين ما لا يصح تناوله والخوض فيه إلا في مجالس أهل العلم الدارسين المتخصصين.
وفي سنة النبي المعلم محمد صلى الله عليه وسلم نصوص صريحة في التنويه بهذه المعاني اللطيفة؛ من ذلك ما رواه مسلم عن معاذ بن جبل قال: «كنت ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار يُقال له عُفير، قال: فقال: “يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟” قلت: الله ورسوله أعلم، قال: “فإن حق الله على العباد أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله عز وجل أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا”، قال: قلت: يا رسول الله، أفلا أُبشر الناس؟ قال: “لا تُبشرهم فيتكلوا”»(3).
وقد عقد البخاري في كتاب العلم من صحيحه بابا أسماه «باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا»، وفيه عن علي رضي الله عنه: «حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذَب اللهُ ورسوله».
– الصمت عن الجدال والمراء:
يُعرف الإمام الغزالي رحمه الله، المراء بقوله: «هو كل اعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه لهوى في النفس لا انتصارا للحق»(4)؛ ويكون الجدال مذموما، ويجب تركه إذا كان يُقصد به الترفع والتعالي، والانتصار للنفس والهوى والباطل لا للحق.
وأهل المراء والجدال يتصفون بأوصاف ذميمة، يبغضها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، مثل التقعير في الكلام بالتشدق وتكلف الفصاحة واستعمال وحشي اللغة ودقائق الإعراب ونحو ذلك؛ قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله يبغض البليغ من الرجال، الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة»(5)، وقال: «إن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة: الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون؛ قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون»(6).
وبعد، فهذه بعض مظاهر الصمت المحمود والمطلوب في الإسلام، ذكرتها على سبيل المثال لا الاستقصاء، وفي العدد المقبل أعرض صورا أخرى، لكن من الصمت المذموم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- ديوان الشافعي، ص. 178، جمعه محمد عبد الرحيم، دار الفكر، بيروت (1420هـ-2000م).
(2)- نفسه، ص. 155-156.
(3)- صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا، رقم: 49(30).
(4)- إحياء علوم الدين، ج. 3ص. 152، تحقيق: سيد عمران، دار الحديث، القاهرة (1425هـ).
(5)- صحيح رياض الصالحين، باب كراهة التقعير في الكلام بالتشدق، رقم: 1485، تهذيب وتحقيق: أبو أسامة الهلالي، دار غراس، الكويت ط. 1 (1423هـ-2002م).
(6)- نفسه، باب حسن الخلق، رقم: 576.