الإحسان عبادة الأبرار (2/2)

إن الذي يستلفت النظر في قصة يوسف عليه السلام كثرة تكرار صفة الإحسان، فكان محسنا مع ربه ومع الناس -وهما متلازمان- فقد سمى الله قصته: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ} [يوسف:3] أي من أحسنه.
ورتب على الإحسان إيتاءه الحكم والعلم مع الشباب: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:22].
ووصفه السجناء بذلك: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36].
وبه مكنه الله تعالى في الأرض: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:56].
وقال له إخوته وهم لا يعرفونه: {قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:78].
وقال عن نفسه وأخيه: {قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90].
ثم أثنى على ربه بإحسانه إليه: {وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:100].
فلم يذهب إحسانه سدى، فكل إحسان يفعله العبد حتى فيمن لا يستحقون لابد أن يكافئه عليه الله تعالى: {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن:60]؛ فاصنع المعروف في أهله وفي غير أهله، فإن صادف أهله فهو أهله، وإن لم يصادف أهله فأنت أهله.
والإحسان خير مكانة يتبوأها العبد، لأنه إن أساء وسعه بعده الإيمان ثم الإسلام، أما من يعيشون على الحد الأدنى للإسلام فهو مع النقص مهدد بكفر الاعتقاد أو كفر النعمة.
قال ابن تيمية: «جعل النبي صلى الله عليه وسلم الدين ثلاث درجات: أعلاها الإحسان، وأوسطها الإيمان، ويليه الإسلام؛ فكل محسن مؤمن، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مؤمن محسنا، ولا كل مسلم مؤمنا…»، ثم قال: «وأما الإحسان فهو أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإيمان، والإيمان أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإسلام، فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام، والمحسنون أخص من المؤمنين، والمؤمنون أخص من المسلمين».
وخلق الإحسان يتسع ليشمل القول والعمل، والعبادات والمعاملات، فهو إكسير الحياة الذي يحيلها طيبة متآلفة، لذلك جعل الله تعالى رحمته ومحبته جائزة المحسنين: {وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]؛ {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56].
كما أن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» [الترمذي].
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان
وأعظم ثمرات الإحسان قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]؛ الحُسْنَى: أي البالغة الحسن في كل شيء، من جهة الكمال والجمال، وهي الجنة، وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم تفسير الزيادة المذكورة في هذه الآية الكريمة بأنها النظر إلى وجه الله الكريم في الجنة، ولا يخفى ما بين هذا الجزاء وذلك الإحسان من المناسبة، فالمحسنون الذين عبدوا الله كأنهم يرونه، جزاهم على ذلك العمل النظر إليه عياناً في الآخرة: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن:60]؛ وعكس هذا ما أخبر الله به عن الكفار في الآخرة بقوله: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31].
إن الإحسان هو الأمارة الدالة على الفوز والنجاة، فمن كان من أهل السعادة، عمِل عمَل المحسنين، ومن كان من أهل الشقاء عمل عمل المسيئين؛ فهو طريقك وهدفك ومحل كدك ونصبك.
روى الطبراني عن أبي سلمة عن معاذ رضي الله عنه قال: «قلت: يا رسول الله أوصني؛ قال: اعبد الله كأنك تراه، واعدد نفسك في الموتى، واذكر الله عند كل حجر وعند كل شجر، وإذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة، السر بالسر والعلانية بالعلانية» [حسن لغيره، الألباني].

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *