الجواهر والزيوف! (عن الدولة المدنية وأخواتها ..) د. البشير عصام

مما يُحكى في نوادر الأساطير، ويُقصد بروايتِه تدبرُ ما فيه من الحكمة: أن شيخا فانيا شعر بقرب أجله، فاستدعى ابنه الوحيد وأوصاه وصية بليغة، كان منها قوله:
“يا بني.. إنك تعلم أن حياتنا في هذه القرية مهددة بسيل جارف قد يجتثها في أية لحظة، وإن في أعلى هذا الجبل الشامخ أمامنا مغارة هائلة فيها النجاة والراحة، وألوان مما يلذ ويطيب. فإذا أنا متّ، فلتأخذ هذا الكيس المحمل بالجواهر الكريمة، فإنها مفتاح الدخول للمغارة، واصعد به إلى أعلى الجبل، لتحقق غايتك في هذه الحياة”.
مات الرجل واعتنى الولد بتحقيق الوصية..
حاول الصعود بكيسه الثقيل مرارا، فلم يفلح..
نظر حوله فوجد الناس متسارعين إلى الصعود بأكياس يملؤونها بقطع زجاجية تشبه الجواهر في منظرها، لكنها خفيفة لا تكلف حاملها شيئا!
تأمل قليلا .. ثم قال:
“لم يكن والدي يقصد أن أصعد بالجواهر حقا، وإنما كان مقصده أن أتحرك .. مقصده أن أعمل .. مقصده أن أصعد..”.
حمل الولد القطع الزجاجية الخفيفة..
صعد الولد ووصل..
ولكن الجواهر بقيت في سفح الجبل!
عن أي شيء أتحدث؟
كنت أسمع قديما عن رجال همهم إقامة الدين في الأمة وتحكيم الشريعة الإسلامية ومواجهة العلمانية.
ومرت العقود.. فصرت أرى بعض هؤلاء يحدثوننا عن الديمقراطية والحداثة والدولة المدنية والسياسة اللادينية، وأبحث في كلامهم عن أثر المرجعية الإسلامية.. عن أحكام الحلال والحرام.. عن تعبيد الناس لربهم.. عن الخضوع لحكم الله..
أبحث وأطيل البحث.. فيرجع طرفي حسيرا، ويؤلمني أنني لا أجد من بغيتي شيئا..
وأتذكر أن هؤلاء -وأحمد الله أنهم قلّة، ولكنهم للأسف متصدّرون- تركوا كيس الجواهر خلفهم، واعتاضوا عنها بقطع الزجاج الزاهية البرّاقة، التي يخطف سناها الأبصار!
نعم.. عن الدولة المدنية أتحدث!
وهي من قطع الزجاج اللامعة التي يلتبس زيفها على غير الخبير، فيحسبها جوهرة غالية!
الدولة المدنية لا يراد بها ما يقابل العسكرية، ولا ما يقابل البدوية غير المتحضرة. وإنما يقصد بها ما يقابل: الدولة الدينية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *