التجسيد السياسي للحلم الصليبي الصهيوني

جيمي كارتر: (لقد آمن وأظهر سبعة من رؤساء الجمهورية أن علاقة أمريكا بإسرائيل أكثر من علاقة خاصة؛ فهي علاقة متأصلة في وجدان وأخلاق وديانة ومعتقدات الشعب الأمريكي نفسه، إننا نتقاسم معكم تراث التوراة…).

إن جذورَ تاريخية ولاهوتية التحول المسيحي الغربي نحو تبني (العقيدة الألفية) و(المجيء الثاني للمسيح)؛ ثم الانحراف الجديد الذي جاءت به حركة الاحتجاج الديني بزعامة مارتن لوثر في مطلع القرن السادس عشر؛‏ كان له تأثير على المواقف السياسية الأمريكية وحقيقة العوامل المؤثرة في رسم السياسات الأمريكية منذ مطلع القرن الماضي سواء داخليا أو خارجيا وبدون قراءة واستيعاب هذه الحقائق سيظل الخطاب السياسي والإعلامي العربي تائها في صحراء الجهل المعرفي.
والواجب هو العمل على إماطة اللثام حول اللغة والاستراتيجية التي ينبغي أن يتبعها الطرف الإسلامي تجاه الولايات المتحدة‏، ‏وتحديد السياسية المطلوبة لإدارة هذا الصراع المصيري والتاريخي بيننا وبين الغرب من جهة؛ ويهود من جهة أخرى؛ باعتبارهما التجسيد السياسي لهذا الحلم الأسطوري التوراتي -بل وحتى الصليبي الأصولي الصهيوني- وأن تصاغ سياسات جديدة تماما في التعامل مع الشأن الأمريكي.
فرغم أن الصهيونية المسيحية لم تختف تماما في العهود التالية، فإن عودتها الحقيقية إلى الساحة السياسية كانت عام 1948 عند الإعلان عن تأسيس دويلة الكيان الصهيوني، وزادت قوة بعد الاستيلاء الصهيوني على الضفة الغربية وقطاع غزة وشرقي القدس ومرتفعات الجولان السورية وصحراء سيناء المصرية عام 1967، حيث إن المجتمع البروتستانتي الأصولي نظر لهذا الحدث كتحقق لـ(النبوءة التوراتية) بانبثاق دولة يهودية بفلسطين.
وفي هذا الإطار كتب مفكر مسيحي صهيوني مباشرة بعد الحرب في دورية المسيحية: (…للمرة الأولى منذ أكثر من 2000 سنة القدس الآن في أيدي اليهود ما يعطي دارسي الكتاب المقدس إيمانا متجددا في دقته وصحة مضمونه…).
وأكدت دراسة للباحثين الأميركيين «ستيفين والت» و«جون ميرشيمر» على أنه (…بعد نهاية الحرب الباردة لم يعد هناك مبرر منطقي لاستمرار العلاقات الخاصة بين الولايات المتحدة ودويلة الكيان الصهيوني بشكلها الحالي، كما أن مبرر المبادئ الديمقراطية المشتركة لا يتماشى مع السياسات الصهيونية لما فيها من انتهاكات لحقوق الإنسان وللقوانين الدولية.
وتوحي الدراسة بأن جذور خطر الإرهاب التي تواجه الولايات المتحدة اليوم متعلقة باستمرار الدعم الأميركي للكيان الصهيوني، وإن هذا الكيان المصطنع لم يعد (دولة بلا حيلة)، نظرا لصعودها لمرتبة القوة العسكرية الأولى بلا منازع في المنطقة. وهذا ما يفرض البحث عن الأسباب الأخرى التي تعتمد عليها الولايات المتحدة في تقديم الدعم لإسرائيل.
كان هناك إدراك كبير بأن السياسات الاقتصادية للجمهوريين في أمريكا تضر بالطبقات التي يسعى الحزب إلى كسب تأييدها، حيث إن الحزب متمسك بمبادئ الاقتصاد الحر ما يقلص من البرامج الحكومية التي تدعم الطبقات المتوسطة والمنخفضة الدخل.
فما المبرر الذي سيقنعهم بتأييد الحزب الجمهوري رغم سياساته الضارة؟
وجد الجمهوريون الإجابة فيما يسمى بـ(المبادئ المسيحية) أو المبادئ الأسرية: Family Values.
وهكذا بدأ التيار اليميني يدعي أنه المحافظ الرئيس على الأخلاقيات المسيحية الأصيلة التي فقدت في المجتمع نتيجة صعود التيارات الليبرالية، وهكذا تحول الحزب الجمهوري من حزب الأثرياء إلى حزب الأخلاق المسيحية…) اهـ.
وفي حقبة السبعينيات والثمانينيات تحولت ظاهرة تصهين اليمين الأميركي، وتحالفه مع الصهيونية اليهودية إلى عنصر دائم في الواقع السياسي. ولا يقتصر هذا التحالف طبعا على المسرح الأميركي، فعلاقة الحكومة الصهيونية بالمنظمات المسيحية الصهيونية تمثل بعدا هاما للحلف الذي كشف عن نواياه في أواخر السبعينيات، عندما أعلن الرئيس الأميركي آنذاك «جيمي كارتر» ترحيبه بفكرة إقامة دولة فلسطينية مستقلة، فقامت المنظمات اليهودية والمسيحية الصهيونية بإدانة تلك الفكرة من خلال إعلان نشر في الصحف الأميركية.
أما الرئيس الجمهوري «رونالد ريغان» فكان من المؤمنين بالصلة بين إنشاء الدولة الإسرائيلية وعودة المسيح، وجاء ذلك في حديث دار بينه وبين مدير لجنة الشؤون العامة الصهيونية الأميركية (أيباك) الأسبق.
وتشير دراسة لأستاذ العلوم الدينية بجامعة نورث بارك بشيكاغو «دونالد واغنر» إلى أن منظمات اللوبي الصهيوني مثل إيباك والمؤسسات المسيحية الصهيونية اشتركوا في تنظيم ندوات بالبيت الأبيض لحث إدارة ريغان على مساندة الموقف الصهيوني.
وحضر تلك الندوات قيادات التيار المسيحي الصهيوني مثل «جيري فالويل» و«بات روبرتسون» و«تيم لاهاي» و«إدوارد ماكتير»، ومستشار الأمن القومي الأسبق «روبرت ماكفرلين»، و«أوليفر نورث» عضو مجلس الأمن القومي في عهد «ريغان».
وفي واقعة تبرز قوة التيار المسيحي الصهيوني، يكتب «واغنر» أنه بعد تدمير دويلة الكيان الصهيوني للمفاعل النووي العراقي عام 1981 لم يقم رئيس الوزراء الصهيوني بيغن بالاتصال بالرئيس الأميركي، بل بأكبر زعماء اليمين المسيحي جيري فالويل طالبا منه أن يشرح للمجتمع المسيحي الأميركي أسباب الضربة الصهيونية للعراق.
ويضيف واغنر أن فالويل نجح في إقناع الرئيس السابق للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ جيسي هيلمز ليصبح مؤيدا للضربة الصهيونية بعدما كان من أكبر منتقديها.
ومن المؤشرات الثقافية الصهيونية في أمريكا ما قاله الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر عن الأساس اللاهوتي والثقافي للانحياز الأمريكي للصهاينة، في حديث له في الكنيست الصهيوني بمناسبة توقيع معاهدة السلام المصرية الصهيونية في مارس 1979: (…لقد آمن وأظهر سبعة من رؤساء الجمهورية أن علاقة أمريكا بإسرائيل أكثر من علاقة خاصة؛ فهي علاقة متأصلة في وجدان وأخلاق وديانة ومعتقدات الشعب الأمريكي نفسه، إننا نتقاسم معكم تراث التوراة…).
هكذا يتأكد لنا أن علاقة أمريكا بالكيان الإرهابي “إسرائيل” هي علاقة دينية أكثر منها اقتصادية أو شيء آخر؛ وأن حلف الصهيونية المسيحية اليهودية ماض في تنزيل مخططاته؛ سواء تعلق الأمر بفلسطين أو غيرها من الدول، ما يتطلب من الساسة والنخبة بصفة عامة نشر الوعي ووضع مخططات دقيقة للوقوف في وجه هذا الخطر الداهم الذي سيأتي –إن استمر الوضع على ما هو عليه- على الأخضر واليابس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *