العمل على تحلل المجتمع من عرى الدين

لم يكتف العلمانيون بمحاولة التخلص من عبودية النصوص، ونزع ربقة التكاليف الشرعية، ولكنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك فراموا هدم الدين كليا، وراموا إقناع الناس بالمبادئ الفلسفية العقيمة التي تنكر وجود الإله، وتفسر (الظاهرة الدينية) بأنها أوهام وأساطير، على نحو ما تقرر الفلسفات اليونانية القديمة، أو الوضعية الحديثة.
فيرى العلمانيون -نصر أبو زيد، ومحمد أركون تحديدا- أن القرآن منتج بشري رسمي مولد دكتاتوري مستبد، وأن وصوله لهذا الحد من التعظيم في قلوب المسلمين ليس بسبب إلهيته، وإنما بسبب عوامل اجتماعية، ونفسية وسياسية أدت إلى رفع شأنه إلى حد الأسطورة وجعلت منه قوة مادية مسيطرة على العقول.
وهذه العوامل هي التي أسماها (الظاهرة القرآنية)، ويحاول محمد أركون من خلال تفسيره للقرآن وقراءة كتب التراث الوصول لهذه العوامل الوهمية وتحليلها وإقناع الناس بوهميتها حتى تتحطم تلك الأسطورة الدينية -بزعمه- وتنتهي تلك القوى الرمزية المسيطرة على عقول المسلمين، ألا وهي القرآن، ويقول شارحا لهذه الفكرة بأنها (أصول مخادعة تختبئ وراء الشعارات الدينية المستنبطة على هيئة حقائق منزلة). تاريخ الفكر الإسلامي ص:21.
ويتكلم محمد أركون عن تحليل (الظاهرة الإسلامية) و(الظاهرة القرآنية) على حد قوله على أساس نظرية “بيير بورديو” وهو عالم اجتماع فرنسي متخصص في سوسيولوجيا الجزائر، وقد اتهم القرآن والسنة بالتعالي المزيف، وزعم أنها منتجات ثقافية لتصورات قديمة، وأنه ينبغي تفكيك مناخ التصورات القديمة التي خلفها الماضي. (الفكر الإسلامي قراءة علمية ص:72).
وزعم أركون أن “بيير” قد كشف عن آلياتها “الآليات الاجتماعية والنفسية والثقافية واللغوية العميقة التي أتاحت تقنيع الواقع وإخفاء وجهه الحقيقي” (المرجع نفسه).
ويقول: “ففي الوقت الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم يعبر مباشرة وبشكل محسوس عن ممارسات وأهداف عمله ومشروعه، كان القرآن يخلع لباس التعالي على هذه الأعمال والوقائع ويجعلها متسامية ومتعالية عن طريق ربطها بالمطلق الأعلى وبالإرادة الغيبية لله (البداء)” (الفكر الإسلامي قراءة علمية ص:255).
وفي تحليل العلمانيين لـ (الظاهرة الدينية) -كما يسمونها- يقولون بعدم وجود إله، وأن الإنسان قد تخيل وجود ذات عليا حتى يشعر بالاطمئنان والقوة، أي شعور التدين عند الإنسان يعوض شعوره بالنقص والضعف وهو المذهب المعروف باسم “الإنسانية”.
فإذا وصل الإنسان إلى الشعور بالقوة وعدم الاحتياج، فإنه بالتالي لم يصبح في حاجة إلى هذه التصورات الخيالية، ويجب عليه تحطيمها والخروج من أسر أساطيرها والانطلاق إلى الواقع “الملحد”.
فمثلا د.حسن حنفي يأخذ نظرية الاغتراب الديني لـ(فيورباخ) ويطبقها بحذافيرها على دلالة لفظ “الله” وعلى براهين “وجوده سبحانه” في القرآن.
ويقول: “الله لا يثبت إلا في حال العجز، ويكون تعبيرا عن الضعف الإنساني” من العقيدة إلى الثورة 2/14.
ويقول: “الذات الإلهية هي الذات الإنسانية في أكمل صورها” (من العقيدة إلى الثورة 2/588).
ويقول: “البراهين على وجود الله لا تثبت شيئا في الخارج، بل تكيف الشعور مع ذاته، ومحاولة الذهن إعطاء أساس نظري لعواطف التأليه” (من العقيدة إلى الثورة 2/44).
ويقول: “في اللحظة التي يقل فيها وعي الإنسان بوجوده، ويغترب في العالم فإنه يشخص وجوده في وجود آخر، متجاوزا به عن وجوده المأساوي في وجود آخر أرحب عن طريق الخيال، وتعويضا عن وجوده المتأزم الهش، وجلبا للطمأنينة والسلام، حتى يعيش في وفاق مع نفسه، وفي وئام مع العالم من خلال الوعي الزائف، وإنها لمهمة الإنسان ومسؤوليته إن شاء أن يسترد وجوده بعد أن أعاره لغيره في لحظة ضعف وهوان” (من العقيدة إلى الثورة 2/107)، أي إن مهمة الإنسان عند د. حسن هي إنكار وجود الله حتى يستعيد إحساسه بوجوده.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *