العلمانية باختصار شديد هي التحاكم إلى غير ما أنزل الله، وهي ضد دعوة التوحيد التي جاء بها الرسل، ضد الخضوع والانقياد والاستسلام لله تعالى وحده. إذ تعتبر التحاكم إلى ما أنزل الله والخضوع والاستسلام لله حكما بالتفويض الإلهي الذي يتناقض ومفهوم الدولة الحديثة.
وبهذا الاعتبار تحاول العلمانية أن تحيد الدين في كل الأمور التي تهم تنظيم الحياة الدنيوية للناس، ومن تم فهي تعمد إلى إقصاء ما تبقى من الشريعة الإسلامية في نظم وقوانين الدول الإسلامية، وبهذا فهي لا تترك بابا للشر إلا طرقته، ولا بابا للخير إلا أوصدته، ولا حقا إلا أبطلته، ولا باطلا إلا زينته، ولا قضية من القضايا المصيرية إلا ميعتها وأفسدتها.
وقد تسلط -للأسف الشديد- العلمانيون على قضية المسلمين المحورية ومعركتهم الحضارية، ضد “يهود”، فانتقلوا بها من انكسار لآخر منذ ستين سنة، ولم تجن الأمة غير الحسرة والندامة، بتسليمها قيادة القضية لبني علمان، فماذا كان؟
عمد العلمانيون إلى تجريد المعركة من بعدها الديني، وعملوا جاهدين على ترسيخ مفهوم الأمة العربية بدل الأمة الإسلامية, وإماتة مفهوم الولاء والبراء على أساس العقيدة, وحل محله الجنس والقومية وغيرها من النعرات، وتوجت هذه الخطوات بإنشاء “الجامعة العربية”، بعد أن قضى “يهود” على كيان الأمة الجامع لها وهو “الخلافة العثمانية”.
وبعد سلسلة من الآلام والنكسات والجراح والنكبات، تحول “الصراع العربي الإسرائيلي”، إلى “صراع فلسطيني إسرائيلي”، ولم تعد القومية هي الحل، بل حلت محلها الوطنية, وأصبحت القضية وطنية فلسطينية بعد أن كانت قومية عربية. وأنشئت “منظمة التحرير” على أسس علمانية. وتولت العلمانية بكل إمكانياتها من إعلام وسلطة وأحزاب وجمعيات ومفكرين ومثقفين مسؤولية مسخنا وتدجيننا وتهييئنا للتطبيع مع العدو.
وكحال أصحاب الهوى والمصلحة، لا يستقرون على مبدأ ولا على عقيدة, تخلى أصحاب القضية عن قضيتهم، وارتموا في أحضان أعداء الأمة مستسلمين طائعين صاغرين خاضعين خانعين. وقزمت القضية إلى أبعد وأقصى وأغرب ما يمكن تصوره، وأصبح هم العلمانيين الحفاظ على ذواتهم وأشخاصهم ومصالحهم وثرواتهم، واختصرت القضية في غزة بدل فلسطين.
وبينما نرى كل شيء في الكيان الصهيوني الذي ينعت بالدولة العلمانية الديمقراطية يحيل على الدين, بدءا من اسمها وعلمها ودستورها وشعارها وألوانها ومشاريعها وأهدافها، وغيرها من المصطلحات المتداولة، كشعب الله المختار وأرض الميعاد، وقدس الأقداس، وهيكل سليمان، وأورشليم، والشمعدان، وغيرها.
تعمد العلمانية بأذرعها الضاربة ومكرها الخبيث, على تجريد الأمة من سلاحها وقوتها، عقيدتها وإيمانها, وبعد أن أفلحت في استبعاد البعد الإسلامي من معركتنا الحضارية، لم تستطع الحفاظ حتى على البعد القومي، ولا حتى البعد الوطني، بل لم تعد القضية قضية وطنية، بل أصبحت قضية السلطة، كيف تحافظ على مواقعها وكراسيها وامتيازاتها، فتصل الوقاحة بأحدهم إلى القول بأن حماس مسؤولة عن مجزرة غزة، لأنها لا تريد الاستسلام لليهود.
وهكذا فمنذ 1948 أي ما يزيد على الستين سنة والعلمانية تنقلنا من مربع ضيق لمربع أضيق، ومن هزيمة نكراء إلى هزيمة أنكر, ومن نقض عروة للإسلام إلى نقض التي تليها. وفي النهاية تخلى العلمانيون بشتى فصائلهم وتلاوينهم وأحزابهم، عن القضية الفلسطينية بعد أن جعلوا منها “حصان طروادة” لتحقيق أهدافهم وتمرير خطابهم وأفكارهم، ثم ليلفظوها كما تلفظ النواة، ويمحى أي ذكر لها في برامجهم وخطاباتهم، وهي الحالة التي تكررت على امتداد عالمنا الإسلامي.
ورحم الله السلطان عبد الحميد يوم كان الإسلام هو الحكم والمحرك, فقد رفض رحمه الله التنازل عن فلسطين رغم كل الإغراءات, بل التهديدات, ولما أصبحت العلمانية هي المهيمنة فوالله إن أعداءنا ليتفاجئون بحجم التنازلات والخيانات.
ولعلها إن شاء الله الشدة التي تسبق الفرج والعسر الذي يتبعه اليسر, فها قد بدأت العلمانية تخنس وتنتكس، وإنما النصر صبر ساعة.