إن تراجع الاستقرار الأسري خلال العقود الأخيرة، لا يمكن النظر إليه بمعزل عن سيادة نمط الحياة الاستهلاكي وما استتبعه من ارتفاع كبير في تكاليف الحياة المعيشية.
إن انتشار الثقافة الاستهلاكية من مركز النظم الرأسمالية إلى محيطات العالم الثالث قد أوجد أيديولوجية استهلاك قوامها النظر إلى الاستهلاك كهدف في حد ذاته وربطه بأسلوب الحياة، وبأشكال التميز الاجتماعي، الأمر الذي جعل الناس يتدافعون نحو الاستهلاك بغض النظر عن حاجاتهم الفعلية..
ومن ثَمَّ تحولت ذواتهم تحت تأثير الاستهلاك المادي والمعنوي إلى ذوات خاضعة لا تملك من أمرها شيئًا، وصارت الجماعات الاجتماعية تسعى من خلال الاستهلاك إلى تأكيد وضعها الاجتماعي ومكانتها في المجتمع، واتجه عدد كبير من الأفراد نحو الْمُتَع الحسِّية والاعتناء بالجسد؛ تواكبًا مع كل المنتجات التي تهدف إلى تجميل الجسد أو الترفيه عنه.
وقد تأثرت الشرائح الاجتماعية ببعضها البعض في نشر هذه الأنماط في عملية تقليد جماعية. وأدى الاستمرار في عملية الاستهلاك المفرط إلى إيجاد رغبات ونزعات استهلاكية متوالية لدى هذه الشرائح، وهو ما يحقق مصالح الشركات المنتجة للسلع والبضائع على حساب الفئات المستهلكة. وتحولت كثير من شعوب الأرض، إلى مجرد مستهلكين هامشيين يشكلون مصدراً جيداً للربح بصرف النظر عما ساهمت به هذه العملية من آثار سيئة على واقعهم الاقتصادي والاجتماعي.
ولوسائل الإعلام الدور الكبير في نشر الأنماط الاستهلاكية المفرطة لدى جمهورها في المجتمعات النامية وجعلها بفعل التكرار والتوسع في نشرها وبمرور الزمن ظاهرة اجتماعية اقتصادية ازدادت رسوخاً وتطورت لتصبح (ثقافة للاستهلاك) في هذه المجتمعات. وهي ظاهرة انتقلت إليها من المجتمعات المتقدمة، ولم تراعى في نقل تلك الظاهرة الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بين هذه المجتمعات [1].
لقد أصبحت وسائل الإعلام وخاصة التليفزيون والإذاعة والتي من المفروض أن تقوم بدور التثقيف والترفيه والتوعية، تتكلم لغة التجارة والتسويق، فالبرامج تمول من قبل التجار أو رجال الأعمال أي لا تخدم سوى مصالحهم والدعاية لسلعهم من أجل “خلق الطلب على السلع وخلق الأسباب التي تدفع المستهلك نحو الشراء”[2]، فأغلب وسائل الإعلام تدعو إلى الشراهة الاستهلاكية وحمى الشراء والتسويق وتقليد المجتمعات المترفة ذات النمط الاستهلاكي التفاخري، وتدعو إلى انتشار نهج جديد من الحياة موحد على مستوى عالمي في مجال السفر والسياحة والأزياء ونوعية الطعام.. وتعتمد وسائل الإعلام على الدعاية المستهدفة مع مشاركة مشاهير العالم مما يؤدي إلى هدر ثروات الشعوب وخاصة العربية منها ليتحول الفرد إلى مستهلك عوض أن يكون منتجا تنافسيا[3].
إن النمط الاستهلاكي الذي ساد المجتمعات العربية لن يزيدها إلا فقرا وتخلفا بين الهوة الحاصلة بين المجتمعات المتطورة (المنتجة) والمجتمعات النامية (المستهلكة)، ونرى ذلك من خلال التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2001 الذي أشار بأن 62 مليون عربي من جملة سكان العالم يعيشون تحت خط الفقر، أي ما يعادل 22% من إجمالي السكان العرب يعيشون على دولار واحد فقط في اليوم، و140 مليون عربي، أي قرابة 52% من تعداد السكان العرب يعيشون على دخل يومي يتراوح ما بين 2 إلى 5 دولارات[4].
وأخطر من ذلك يأتي الزحف الاستهلاكي لكي يدفع بأعضاء الطبقات الفقيرة والمتوسطة لكي ينفقوا ما يفوق طاقتهم في مجالات الاستهلاك الكمالي، مما أحدث خللا واضحا في ميزانية الأسر. ويكفي أن نعرف أن مئات المليارات تصرف سنويا على مكالمات الهاتف المحمول، الذي أصبح يستخدم للوجاهة الاجتماعية وليس لتلبية الحاجات الضرورية للاتصال[5].
ما الذي يدفعنا للاستهلاك؟
نحن ندمن الاستهلاك لأن جزءاً كبيراً من معنى الحياة في أعماقنا لم يحل، والذي يجد معنى حقيقياً لحياته لا يتقلب في متاهات رغبته، لأنه استطاع أن يقودها إلى ما يشبعها بحق. ولهذا فقاعدة النمط الاستهلاكي الأصيلة: كلما زاد ما أملكه زاد معنى حياتي.. وهو صميم النموذج المادي. ونقيضه: كلما ارتفعت كينونتي (قيمة ذاتي الحقيقية) دون النظر إلى ما أملك، زادت سعادتي[6].
وتتصاعد حدة نموذج الملكية، ولا تخبو لأن الملكية ارتبطت بصورة الذات، ولا يمكن التقليل من حدتها ما لم نفصل (الذات) عن (الملكية). عن أبي هريرة، عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «تَعِسَ عبدُ الدِّينار، وعبدُ الدِّرهم، وعَبْدُ الخميصة، إن أُعْطِيَ رَضِيَ، وإن لم يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وانْتَكَسَ، وإذا شِيكَ فلا انْتُقِشَ». وهذا هو جوهر النمط الاستهلاكي: أن تتملكني الأشياء التي أزعم أني قادر على امتلاكها. قال الإمام ابن تيمية: “من لم يكن عبداً لله كان عبداً لهواه، شاء أم أبى”. وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعيب على الناس إقبالهم على شهواتهم، ويقول: “أكلَّما اشتهيتم اشتريتم”؟![7].
ومن الملفت للنظر أن الإنسان المعاصر الذي يدعي أنه يأخذ قرارته باستقلالية، ولا يجبره أحد على ما لا يريد .. لو تأمل في عمق واقعه لوجد أنه يشتري كثيراً من الأشياء لمجرد أن (آلة التسويق) هي التي تَسُوقه.. وقد أصبح مستعبَداً لها وهو يظن أنه حر.
عن حذيفة، وابن مسعود -رضي الله عنهما- قالا: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يكُنْ أحَدُكُمْ إِمّعَة، يقول: أنا مع الناس، إِن أحْسَنَ الناسُ أحسنتُ. وإن أساءوا أسأتُ، ولكن وَطِّنُوا أنفسكم إن أحسن الناسُ أن تُحْسِنُوا، وإن أساءوا أن لا تظلِمُوا» أخرجه الترمذي[8].
والسؤال الذي يكمن هنا لماذا لا نبدأ بإضراب صامت وطرح عقابي لمقاومة إغراءات الاستهلاك ومقاطعة الصناعات التي تعزز تبعيّتنا؟ لنرسّخ بذلك دعائم العمل العربيّ المشترك ونستمد من مناهل الغنى لدى حضارتنا، ولنكفّ عن تمريغ أدمغتنا في وحل ثقافة دخيلة تشبع غرائزنا بتشويه متعمّد[9].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]– تيسير مخول، المجتمعات النامية وثقافة الاستهلاك.
[2]– د.عائشة مصطفى المنياوي، سلوك المستهلك المفاهيم والاستراتيجيات، ص 159.
[3]– أ.براحو سهيلة، أ.رضا جاوحدو، تداعيات العولمة الاقتصادية على تغيير الأنماط الاستهلاكية في الدول العربية، بحث مقدم في المؤتمر العلمي الرابع لجامعة فيلاديلفيا-كلية العلوم المالية والإدارية : الريادة والإبداع-استراتيجيات الأعمال في مواجهة تحديات العولمة، 15/3/2005.
[4]– المرجع السابق.
[5]– محمد ابراهيم مبروك، الإسلام والعولمة صراع أم حوار.
[6]– محمد فريد، أوهام الاستهلاك.
[7]– محمد فريد، أوهام الاستهلاك.
[8]– محمد فريد، أوهام الاستهلاك.
[9]– هند شريدة، الثقافة الاستهلاكية تغزونا في عُقر دارنا.