الحرب العلمانية على الوقف الإسلامي

نظرا لأهمية نظام الوقف في الإسلام، وفوائده العديدة على المسلمين في شتى مجالات الحياة؛ حيث غطى الوقف الإسلامي منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم وحتى الاحتلال العلماني لبلاد المسلمين، آفاقاً واسعة من أعمال الخير وجهات النفع العام، شملت المساجد ودور القرآن الكريم والمدارس ومعاهد العلم والمستشفيات…. الأمر الذي شكل –من وجهة نظر الغرب العلماني– مصدر خطر حقيقي على نظامه العلماني الذي أراد فرضه على الدول الإسلامية بديلا عن الإسلام، فعمل على توجيه مكنون حقده وعدائه على هذه الشعيرة، فعدَّها مصدر استقلال ذاتي للأمة الإسلامية حتى بعد استعماره لها.
لقد شملت الحرب العلمانية على الوقف الإسلامي جميع الجوانب النظرية والعملية، وفيما يلي سنحاول تلخيص أبرز نقاط هذه الحرب:
1- بداية قام الغرب العلماني منذ احتلاله لبلاد المسلمين -عسكريا أو عبر تحكمه بقادته- بالسيطرة على وقف المسلمين وتحويله -عينا ومنفعة- إلى خزينة الدولة، والأمثلة في هذا المقام لا تكاد تنتهي:
– يقول الشيخ محمد عبده متحدثا عن سيطرة محمد علي على وقف المسلمين في مصر -ومحمد علي يعد أول حاكم يدخل العلمانية إلى بلاد المسلمين، من خلال محاولته تقليد الغرب عسكريا وإداريا-: «نعم: أخذ ما كان للمساجد من الرزق وأبدلها بشيء من النقد يسمى فائض رزنامة لا يساوي جزءاً من الألف من إيراده. وأخذ من أوقاف الجامع الأزهر ما لو بقي له اليوم (ربيع الأول 1320 = يونيو 1902)، لكانت غلته لا تقل عن نصف مليون جنيه في السنة، وقرر له بدل ذلك ما يساوي نحو أربعة آلاف جنيه في السنة» (آثار محمد علي في مصر، مجلة المنار 5/175).
– وفي بلاد الشام -التي يقول بعضهم: «إن معظمها هو وقف» تعبيرا عن كثرة الوقف فيها- انحسر الوقف وآثاره فيها إلى حد التقزم على يد العلمانية المباشرة أو غير المباشرة، فقد حاربت بريطانيا الوقف الإسلامي والمحاكم الشرعية الإسلامية في فلسطين في الفترة ما بين 1917 و1948، فضمتها في دائرة باسم (العدل والقضاء) التي يرأسها مستشار قضائي (المستر بنتويش) وهو يهودي ومن رجال الحركة الصهيونية، وقد فعلت فرنسا في كل من سورية ولبنان ما فعلته بريطانيا في فلسطين، وكررت الأمر نفسه في مستعمرتها الجزائر.
– وقد أكمل اليهود دور العلمانية البريطانية في فلسطين، عادّين الأوقاف الإسلامية أملاك غائبين، وقد نقلوا -وفقا لهذا القانون-75% من أراضي الأوقاف الفلسطينية الإسلامية وعقاراتها إلى مؤسسات يهودية.
2- تشويه صورة الوقف الإسلامي: وذلك من خلال إثارة الكثير من الشبهات حوله، بل وتحميله مسؤولية الإخفاقات والتدهور الاقتصادي والاجتماعي في المجتمع الإسلامي، بعد أن عملت الدول الغربية الاستعمارية على تسويق بضاعتها العلمانية في الدول العربية والإسلامية على حساب النظام والشريعة الإسلامية.
لقد عملت الآلة الإعلامية والدعائية الغربية القوية على تصوير الوقف الإسلامي بأنه من أهم عوامل تعويد الناس على البطالة والكسل والتسكع، كما روجوا للفكرة العلمانية الأساسية التي تقول: أن السلطة لا بد أن تكون بيد الدولة وحدها، متهمين المؤسسات الوقفية بأنها تقوض تلك السيطرة الكاملة للدولة وتضعفها؛ حيث تعمل تلك المؤسسات بمعزل عن الدولة.
ومن خلال إشاعة بعض الاتهامات الباطلة على بعض المشرفين في بعض المؤسسات الوقفية والخيرية الإسلامية، تم تشويه صورة هذه المؤسسات في أعين بعض الناس، وإقناعهم أنها إن أضحت بيد الدولة وتحت إشرافها فإنها ستعطي ثمارا أفضل ونتائج أحسن، إلا أن الواقع أثبت أن الأمر لا يعدو أن يكون خطة لتقزيم هذه المؤسسات وإضعافها في الدول الإسلامية، ليقوم بتطبيقها ضمن وجهته العلمانية في بلاده؛ حيث أضحى قطاع الوقفي والخيري والتطوعي القطاع الثالث في الدولة الحديثة الأوربية المعاصرة.
3- جعل (وزارات الأوقاف) في البلاد الإسلامية وسيلة لمحاصرة دور الإسلام في المجتمع وتحجيمه عموما، وإضعاف دور الوقف الإسلامي وتقزيمه في حياة المسلمين خصوصا.
فبدلا من أن تقوم وزارة الأوقاف بتنمية الوقف الإسلامي وتطويره حسبما يناسب التطورات الحديثة، نراها تقوم بعكس ذلك تماما، وبينما كان من المفروض أن تكون (وزارة الأوقاف) في الدول العربية والإسلامية من أغنى الوزارات، نظرا لوجود عقارات وأموال طائلة موقوفة، وبالتالي تحقق الاستقلال المالي، الذي يعد الأهم في الاستقلال المعرفي والثقافي للعلماء والخطباء والمدرسين الإسلاميين، نجد أن وزارات الأوقاف في الدول العربية والإسلامية هي الأكثر فقرا والأقل ميزانية.
ولقد كان انعكاس هذا الفقر للوزارة على الدعوة الإسلامية شديدا، فأصبح الإمام والخطيب والعالم والمدرس للعلوم الشرعية والإسلامية أقل دخلا في المجتمع وأدنى مكانة ومنزلة فيه، كما أضحى التعليم الشرعي في أدنى مستوياته تبعا لذلك، ناهيك عن التبعية الكاملة والتامة للدولة في توجهاتها وإملاءاتها.
إن المقارنة بين ما كان عليه الوقف الإسلامي -قبل الحرب العلمانية عليه- من تطور وازدهار مستمر، وصل إلى حد تخصيص وقف لتطبيب الحيوانات المريضة، ووقف في الشام للقطط الضالة يطعمها ويسقيها سمي (بمدرسة القطّاط)، ووقف للكلاب الشاردة يؤويها ويداويها سمي (محكمة الكلاب)، إضافة لوقف رعي خيول الجهاد المسنة العاجزة، وهو في أرض المرج الأخضر بدمشق، ترعى فيه حتى تموت بكرامة…الخ.
وبين ما آل إليه في العصر الحديث من تدهور وتقهقر وتراجع، وصل إلى حد بلوغ عدد الجائعين في العالم إلى مليار شخص، كثير منهم في بلاد العرب والمسلمين، فضلا عن المحتاجين لأمور أخرى غير الغذاء من أجل البقاء على قيد الحياة، يشير إلى مدى قسوة الضربات العلمانية التي انهالت عليه، وتأثيرها المباشر على فاعلية هذا النظام الإسلامي العظيم.
ولقد كشفت الأزمات المعاصرة الأخيرة في الدول العربية والإسلامية عن هذا الضعف المخزي والمهين للعمل الخيري والإغاثي والإنساني الإسلامي، بينما المؤسسات الإغاثية الغربية والأممية تصول وتجول في بلاد المسلمين، ناشرة ثقافتها وأفكارها الباطلة بين المسلمين المحتاجين. (مجلة الفرقان).
فأين ما كان عليه المسلمون مما آلوا إليه؟؟!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *