نيل المنى

ثالثها: أن اعتبار وجود الحكمة في المحل عينا لا ينضبط، لأن تلك الحكمة لا توجد إلا ثانيا عن وقوع السبب، فنحن قبل وقوع السبب جاهلون بوقوعها أو عدم وقوعها، فكم من مطلق على إثر النكاح، وكم من نكاح فسخ إذ ذاك لطارئ طرأ أو مانع منع، وإذا ذلك نعلم وقوع الحكمة فلا يصح توقف مشروعية السبب على وجود الحكمة؛ لأن الحكمة لا توجد إلا بعد وقوع السبب، وقد فرضنا وقوع السبب بعد وجود الحكمة، وهو دور محال، فإذا لابد من الانتقال إلى اعتبار مظنة قبول المحل لها على الجملة كافيا. هذا ما استدل به أهل هذا المذهب.
واستدل مخالفوهم وهم من ذهبوا إلى أن السبب تقصد شرعيته بوجود هذا الأمر الخارجي المسقط لحكمته الموجود في محله بأمور:
أحدها: أن قبول المحل إما أن يعتبر شرعا بكونه قابلا في الذهن خاصة، وإن فرض أنه غير قابل في الخارج فما لا يقبل في الذهن لا يشرع التسبب فيه.
وإما بكونه توجد حكمته في الخارج؛ فما لا توجد حكمته في الخارج لا يشرع أصلا كان في نفسه قابلا لها ذهنا أو لا، فإن كان الأول فهو غير صحيح؛ لأن الأسباب المشروعة إنما شرعت لمصالح العباد، وهي حكم المشروعية؛ فما ليس فيه مصلحة وهو مظنة مصلحة موجودة في الخارج، فقد ساوى ما لا يقبل المصلحة لا في الذهن ولا في الخارج، من حيث المقصد الشرعي، وإذا استويا امتنعا أو جازا؛ لكن جوازهما يؤدي إلى ما اتفق على منعه، فلا بد من القول بمنعهما مطلقا، وهو المطلوب.
والثاني: أنا لو أعملنا السبب هنا، مع العلم بأن المصلحة لا تنشأ عن ذلك السبب ولا توجد به، لكان ذلك نقض القصد الشارع في شرع الحكم؛ لأن التسبب هنا يصير عبثا، والعبث لا يشرع، بناء على القول بالمصالح، فلا فرق بين هذا وبين القسم الأول، وهذا هو معنى كلام القرافي.
والثالث: أن جواز ما أجيز من تلك المسائل، إنما هو باعتبار وجود الحكمة؛ فإن انتفاء المشقة بالنسبة إلى الملك المترفه غير متحقق، بل الظن بوجودها غالب؛ غير أن المشقة تختلف باختلاف الناس ولا تنضبط، فنصب الشارع المظنة في موضع الحكمة، ضبط القوانين الشرعية؛ كما جعل التقاء الختانين ضابطا لمسبباته المعلومة، وإن لم يكن الماء عنه؛ لأنه مظنته، وجعل الاحتلام مظنة حصول العقل القابل للتكليف؛ لأنه غير منضبط في نفسه، إلى أشياء منذ لك كثيرة، وأما إبدال الدرهم بمثله، فالمماثلة من كل وجه قد لا تتصور عقلا؛ فإنهما من متماثلين إلا وبينهما افتراق ولو في تعيينهما، كما أنهما من مختلفين إلا وبينهما مشابهة ولو في نفي ما سواهما عنهما، ولو فرض التماثل من كل وجه فهو نادر، ولا يعتد بمثله أن يكون معتبرا، والغالب المطرد اختلاف الدرهمين والدينارين ولو بجهة الكسب، فأطلق الجواز لذلك، وإذا كان ذلك كذلك، فلا دليل في هذه المسألة على مسائلنا.
حاصل القول:
أن التوسل بالسبب الشرعي إلى كسبهم سببه إذا كان لا يمنع يسقط شرعا إلا في المحل الذي لا يقبل الحكمة المقصودة شرعا من وضع ذلك السبب، فإن النكاح والشراء المتوسل به ما في مسألتي التعليق المذكورتين لم تسقط شرعيتها، فصحة ما بنى عليه ما أثبته، والجواز الشرعي ما ضفي التوسل بهما إلى مسببيهما المذكورين: ثبوت العصمة، والملك، وإن كان ما يترتب عليهما من الطلاق والعتق مخالفا لما قصد شرعا من وضعهما، أي السببين.
وأما إن كان التسبب بالسبب الشرعي إلى مسببه يسقطه، ويرفعه عدم وجود الحكمة المقصودة من وضع ذلك السبب لهذا المسبب، سواء كان ذلك من جهة عدم قبول المحل لذلك، أو من جهة أخرى كطرح ما يمنع المسبب من حصول حكمته، وإن كان المحل باعتبار حالته الأصلية لا يمنع فيه ذلك، فإنما ذكر من السبب ينفي مسألتي التعليق المذكورتين لا يصح التوصل بهما إلى مسببيهما، ولا يجوز ذلك على الإطلاق، وتماما لبيان في المتقدم ذكره لكل واحد من أهل المذهبين المذكورين والله أعلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *