تقصيد الأعمال والأقوال وفق مقاصد الشريعة الإسلامية(1) عبد الحفيظ حميش _ باحث متخصص في ديداكتيك العلوم الشرعية

من غير شك أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق الكون عبثا هكذا، بل جعله يتحرك ويسير وفق مشيئته وقدرته، يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل، وذلك لأهداف وحكم يعلمها هو سبحانه وتعالى، فكل شيء عنده بأجل مسمى، قال تعالى: “يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى” (الزمر:5)
ولما جعل الله سبحانه وتعالى الغاية العظمى والمقاصد الكبرى من خلقه للجن والإنس هو عبادته سبحانه قال تعالى: “وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون” (الذاريات:56)، لم يبق للإنسان مجالا للعبث والعشوائية في جميع حركاته وسكناته، وفي جميع أقواله وأعماله؟ وهو موضوع حديثنا لتفصيله في هذا المقال، وسأتناوله في عنصرين اثنين:

أولا: تقصيد الأقوال وفق مقاصد الشريعة الإسلامية
إن المتأمل لكتاب ربنا وسنة نبينا ورسولنا عليه الصلاة والسلام، يجد أن كل حركات الإنسان وسكناته لها مقصود وهدف، سواء في الحال أو المآل، ولذلك فإن أي قول يتلفظ به الإنسان إما أن يجلب له مصلحة ويكون له به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها والله يضاعف لمن يشاء، وإما أن يجلب له مفسدة ويترتب عنه به سيئة، وهو واضح من الآية الكريمة قال تعالى: “ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد” (ق:18) حين يعي الإنسان المسلم هذه الآية جيدا لا يمكن إلا أن يقول ما يرضي الله سبحانه وتعالى، ولا يتلفظ بكل ما يمليه عليه عقله وهواه، وللأسف الشديد إنما نراه اليوم بين الناس وما يتداو لونه بينهم في التجمعات والمقاهي من الكلام في أعراض الناس وإصدار الأحكام الجاهزة، دون علم أو دليل؛ فقط مجرد سماع من شخص كيف ما كان حاله كذابا أو فاسقا أو غيره ويصدقون ما يقول وينسون نحن أمة التثبت من الخبر قال تعالى: “يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا” (الحجرات:5)، (وفي قراءة أخرى فتثبتوا)، لما غاب هذا المبدأ العظيم في الدين وهو التثبت من الأخبار صار معظم الناس يتكلمون ويهتكون أعراض الناس ويتهمون هذا أو هذه أحيانا بالبهتان العظيم، دون أن يعلموا أن العرض من الكليات الأساسية أو المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، التي جاءت لحفظها وعدم المساس بها، ولا يعرفون حديث النبي عليه الصلاة والسلام “إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ”.
إن خطورة الأقوال دون قصد أو هدف تؤدي بصاحبها إلى الهلاك دون وعي منه أو بوعي؛ لكنه في غفلة من ذلك، لذلك فإن الشريعة الإسلامية وفق مقاصدها تؤطر حياة الإنسان في جميع حركاته وسكناته، وذلك لكون الشريعة منزهة عن العبث والارتجال، فهي جاءت من عند الله تعالى وفق مقاصد تجلب ما يصلح للإنسان وتدفع عنه ما يفسد حاله في المعاش والمعاد.
فالخالق يعرف ما يصلح لخلقه قال تعالى: “ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير” (الملك:14).
من هنا يظهر أن خطورة الأقوال التي تصدر من الإنسان دون قصد منه أو هدف، تترتب عنها عواقب سلبية خطيرة، كما أنها إذا كانت الأقوال في خير تترتب عنها آثارا إيجابية في الدنيا والآخرة، ولعل الحديث الجامع لهذا كله يتجلى في وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حول حصائد الألسنة وهو معروف ومعلوم عند الجميع.

ثانيا: تقصيد الأعمال وفق مقاصد الشريعة
تقيصد الأعمال وفق مقاصد الشريعة الإسلامية نعني به؛ التفعيل والتطبيق لكل ما تم اكتسابه من التعلمات والمهارات والقيم المنبثقة من العلوم الشرعية، لأنه حينما نتحدث عن مقاصد الشريعة الإسلامية فهي جزء من منظومة العلوم الشرعية، وربط العلم بالعمل معناه ربط الدين بالحياة كلها، يقول الإمام أبو إسحاق الشاطبي (ت790هـ) في كتابه الموافقات: “كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي؛ وأعني بالعمل: عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعا”.
تقصيد الأعمال الصالحة تنتج عنها محبة الله وابتغاء مرضاته، لأنه ما كل الأعمال يمكن أن تكون كذلك، فالعمل الصالح هو ذاك الذي توفرت فيه ضوابطه وموافقته للشريعة الإسلامية، وكما هو واضح في كثير من الآيات التي نصت صراحة على ذلك منها قوله تعالى: “والعصر إن الانسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر”(العصر) هذه ضوابط العمل الصالح النافع الذي يمتد أثره إلى صاحبه حتى بعد مماته، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعوا له”.
إن تقصيد الأعمال ينبغي أن ترتكز أساسا على الإخلاص حتى يكون عملا ناجحا وهادفا في الدنيا وأجره في الآخرة بإذن الله، وكل ما كان الإخلاص في القول والعمل كان الإتقان والإحسان، وكل ما غاب الإخلاص كانت النتائج عكس ذلك، أو ربما مهددة بالانهيار في كل وقت وحين، إذ تقصيد الأعمال ينبع عن قصد في التفكير والتخطيط المسبق من خلال رسم الأهداف والمقاصد قبل الإقدام على أي عمل، لأن ذلك من شأنه أن ينظم العمل ويجنب صاحبه من العشوائية والارتجال إلى الضبط والإحكام، فتقصيد العمل يحيل على تحديد المنطلقات والوسائل والطرق المفضية إلى النتائج وبالتالي: يمكن أن ينتج عن ذلك ربح الجهد واقتصاد في الوقت وتحقيق المقصود بكل يسر وسهولة.
لما يسبق التخطيط المحكم أقوالنا وأفعالنا نسير إلى ذلك قاصدين، وإن الذي يحدد الأهداف والطرق والوسائل معناه أنه يعمل وفق (التخطيط) الذي يرسم تصميما محكما لجميع الأعمال والأقوال ويسير وفق منهج واضح وطريقة مناسبة، لكن إذا غاب التخطيط عمت الفوضى والارتجال وتصبح الوسائل مقاصد: والمقاصد وسائل وتكون النتيجة خسارة في الدنيا وتضييع أجر ذلك في الآخرة إذا لم ينتبه الإنسان لهذا الأمر قبل فوات الأوان.
هذا مجمل الكلام الذي قصدنا منه إعطاء التصور العام لهذه السلسلة التي اخترت لها تفعيل المقاصد وعلاقتها بحياة الإنسان الدنيوية والأخروية نسأل الله أن يرزقنا الثبات في القول والعمل والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *