قص علينا القرآن الكريم قصة إبراهيم ويونس عليهما السلام مع أقوامهما، وكذلك قص علينا النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا من ذلك في سنته، وليس هناك كتاب على وجه الأرض فيه قصص الأنبياء السابقين، ويوثق بما فيه، ويجزم بصحته إلا القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وما عدا ذلك فلا يوثق بما فيه، وقد امتدت أيدي التحريف إلى الكتب التي نزلت على الأمم قبلنا فلم تعد مصدر ثقة، ولا يعتمد على ما فيها من الأخبار والتاريخ.
فليس هناك سبيل لتحديد هذه المدة، على وجه القطع، إلا من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة.
وحيث إنه لم يرد فيهما شيء عن تحديد هذه المدة، فالواجب في مثل هذا هو التوقف، وتفويض علم ذلك إلى الله تعالى، والجزم أنه لو كان خيرا لنا (في دنيانا أو أخرانا) معرفة هذه المدة لذكرها لنا الله تعالى، فإذا لم يذكرها القرآن ولا السنة النبوية فلا فائدة لنا في معرفتها، ويقال في هذا وأمثاله: “علم لا ينفع، وجهل لا يضر”.
قال الإمام الطبري رحمه الله، بعدما ساق الخلاف في مبلغ الثمن الذي بيع به يوسف عليه السلام:
” والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذِكْره أخبر أنهم باعُوه بدراهم معدودة غير موزونة، ولم يحدَّ مبلغَ ذلك بوزن ولا عدد، ولا وضع عليه دلالة في كتاب ولا خبر من الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد يحتمل أن يكون كان عشرين، ويحتمل أن يكون كان اثنين وعشرين، وأن يكون كان أربعين، وأقل من ذلك وأكثر، وأيُّ ذلك كان، فإنها كانت معدودة غير موزونة؛ وليس في العلم بمبلغ وزن ذلك فائدة تقع في دين، ولا في الجهل به دخول ضرّ فيه. والإيمان بظاهر التنزيل فرضٌ، وما عَداه فموضوعٌ عنا تكلُّفُ علمه”. انتهى، من “تفسير الطبري” (15/16).
ثم إن غاية ما ورد في قصة إبراهيم عليه السلام، مما يتعلق بمدة مكثه في النار، ما رواه أبو نعيم في “الحلية” (1/2)، وابن أبي حاتم في “تفسيره” (8/2456)، وابن عساكر في “تاريخه” (6/191) عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: “أُخْبِرْتُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أُلْقِيَ فِي النَّارِ كَانَ فِيهَا -مَا أَدْرِي إِمَّا خَمْسِينَ، وَإِمَّا أَرْبَعِينَ يَوْمًا- قَالَ: “مَا كُنْتُ أَيَّامًا وَلَيَالِيَ قَطُّ أَطْيَبَ عَيْشًا مِنِّي إِذْ كُنْتُ فِيهَا، وَوَدِدْتُ أَنَّ عَيْشِي وَحَيَاتِي كُلَّهَا مِثْلَ عَيْشِي إِذْ كُنْتُ فِيهَا”.
والمنهال بن عمرو من صغار التابعين، كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله، ولا ندري عمن أخذ هذا، ولعله أخذه عن أهل الكتاب، فلا حجة فيه.
وقد نُقلت -أيضا- عدة أقوال عن بعض العلماء في المدة التي مكثها يونس عليه السلام في بطن الحوت.
قال ابن كثير رحمه الله:” وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ مَا لَبِثَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، فَقِيلَ: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: جُمْعَة، قَالَهُ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ. وَقِيلَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا، قَالَهُ أَبُو مالك. وَقَالَ مُجَالد، عَنِ الشَّعْبِيِّ: الْتَقَمَهُ ضُحًى، وَقَذَفَهُ عَشِيَّةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ” انتهى من “تفسير ابن كثير” (7/ 38).
فأنت ترى -أيها القارئ الكريم- أن ابن كثير رحمه الله بعد أن ذكر هذه الأقوال وَكَلَ عِلْمَ ذلك إلى الله فقال: “والله أعلم بمقدار ذلك”، ولم يهتم بترجيح شيء من هذه الأقوال التي حكاها، إذ لا سبيل إلى الجزم بشيء منها، ولا يترتب على معرفتها فائدة.