لم تكن عين أعداء المرأة غافلة عما يصنعه الوحي في المرأة من إطلاقها من يد الزنادقة والوثنيين، وفك أسرها من سجن الملاحدة والباطنية المشركين، ولذلك سعوا ولا يزالون إلى الآن إلى إفساد ما يبنيه الوحي من حق بعدل.
لم يكن للمرأة في الأديان الوضعية والفلسفات الشرقية والغربية قيمة، ولم يكن يعتد بها في جاهليات تاريخ الإنسانية، وقد أظهرت الوثائق التاريخية والكتابات الفكرية ما كانت تعانيه المرأة من ظلم شديد يقوم على الحط من كرامتها والنيل من عرضها وهضم حقوقها، ولم يكن ينصفها إلا الوحي والنبوة وأنصارهما، وكلما ارتد الناس عنهما نالها من ذلك ردة عن حقوقها، فكان مصيرها مرتبطا دائما بهما، ولم تكن أرض العرب عن ذلك بعيدة، فقد كانت تدفن رضيعة حية في رمال الصحراء العربية، وكم من نفس منفوسة أزهقت ظلما، بغير ذنب قتلت.
فكان الأب الجاهل يئدها بيديه، ويرسل على وجهها التراب تحت ناظريه، بل كانت تورث فيما يورث من المال، فلم يكن لها في نظر الرجال عقل ولا رأي، فلا يعبأ بقولها، ولا يطلب في شيء رأيها، ولم يكن بد من إرسال نبي يرحمها، وبعثة رسول ينقذها، فأوحى الله إلى محمد عليه الصلاة والسلام في غار حراء بـ(إقرأ) كي يرفع الجهل بالعلم، والظلم بالعدل، ويوسع الله به على الناس في العالم كله بعد أن ضيقوا على أنفسهم.
روى البخاري عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب قال: “كنا في الجاهلية لا نعد النساء شيئا، فلما جاء الإسلام وذكرهن الله، رأينا لهن بذلك علينا حقا، من غير أن يدخلهن في شيء من أمورنا”، وفي رواية أبي داود الطيالسي بلفظ: “كنا في الجاهلية لا نعتد بالنساء، ولا ندخلهن في شيء من أمورنا، فلما جاء الله عز وجل بالإسلام، وأنزلهن الله تعالى حيث أنزلهن، وجعل لهن حقا من غير أن يدخلن في شيء من أمورنا…”.
والمثير في هذا النص العمري أنه مع صراحته في غاية من الوضوح والبيان، فقد نبه عمر على أنه لم يكن للمرأة شيء في الجاهلية، وأن الوحي هو من أنزلها منزلها الذي ينبغي لها، ومعنى “ذكرهن” أي رفع من منزلتهن، سوى أنهم لم يكونوا اعتادوا بعدُ على إدخالهن في أمورهم مثل استشارتهن وأخذ رأيهن، وسيكون للوحي مرة أخرى الفضل في إدخالها، وقد كان في ذلك كله البركة.
تحفل السيرة النبوية بكثير من المواقف القوية، والتي توقف عندها العلماء يبنون عليها قضايا ثقيلة، ويستخرجون منها مفاهيم عالية كان لها الأثر الكبير في رد الحق إلى أصحابه، مهتدين بالوحي الإلهي والتوجيه النبوي لصناعة أمة العلم والإيمان والعدل، ومن تلك المواقف الرائعة، واللحظات البديعة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، بل في سيرة الإسلام ما رواه البخاري الإمام أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار أم سلمة في أمر أصحابه عند الحديبية إذ لم يكن منهم ما طلبه، فأشارت عليه بالفعل كي يتبعوه، وبالمبادرة إليه كي يتابعوه، فكان ذلك منها عين الرشد، وكانت استجابته لإشارتها عين الحكمة، وثبت هذا الحادث في الذاكرة الإسلامية، وكان له تبعاته العجيبة، إذ سيجهز على ما كان بقي من ظلم في حق المرأة، ويرفع الران الذي بقي شيء منه على قلوب الناس في أمر النساء، حتى لا يموت النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد اكتمل الدين، وتمت النعمة.
من اللطيف الإشارة هنا إلى أن أم سلمة كانت مرجعا بعد ذلك في طلب الإشارة لوفور عقلها، كيف لا وقد استشارها نبي، فقد روى ابن عبد البر في التمهيد عن وهب بن كيسان قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: “لما قدم مسلم بن عقبة المدينة، أتت الأحياء يبايعونه فأتى بنو سلمة ولم آت معهم، فقال: لا أبايعكم حتى يخرج إلي جابر، قال: فأتاني قومي فناشدوني الله، فقلت لهم: أنظروني فأتيت أم سلمة فاستشرتها في الخروج إليه، فقالت: والله إني لأراها بيعة ضلالة، ولكن قد أمرت أخي عبد الله بن أبي أمية أن يأتيه فيبايعه، كأنها أرادت أن تحقن دمه، قال جابر: فأتيته فبايعته”.
ونبه ابن عبد البر على الخطأ في قول الراوي “أخي عبد الله”، وجعلها “ابن أخي عبد الله”، وفي هذا الخبر أنها راعت مصلحة حقن الدماء في قضية سياسية، فليس لاستشارة المرأة حد تحد به ما لم تكن إشارتها في معصية.
لم تكن عين أعداء المرأة غافلة عما يصنعه الوحي في المرأة من إطلاقها من يد الزنادقة والوثنيين، وفك أسرها من سجن الملاحدة والباطنية المشركين، ولذلك سعوا -ولا يزالون إلى الآن- إلى إفساد ما يبنيه الوحي من حق بعدل.
وكان من ذلك أن سعوا إلى الترويج لأحاديث تعارض الوحي في ذلك، فاندسوا ودسوا، وكان لهم في ذلك صرعى لم ينتبهوا، ولكن الجهابذة تحققوا وتفطنوا لهذه المؤامرة، فكشفوا عن الزيف وفضحوه، وأظهروا الكيد وردوه، وكان منهم أن نبهوا على ضعف شديد ونكارة بل وضع في كثير من الأحاديث التي روجت مثل “شاوروهن وخالفوهن” أو “ليخالفها فإن في خلافها البركة” و”طاعة النساء ندامة” وغيرها. ولذلك شدد العلماء في تنبيه الناس على وجوب ردها، وسدد النظّار الأمر بالانتصار لخلافها، واستحضروا الأدلة والشواهد.
ومن ذلك حديث الاستشارة الحديبية، وقد روى ابن قتيبة في عيون الأخبار عن الحسن البصري أن تلك الاستشارة لم تكن مفردة ولا غريبة، بل كانت واحدة من عدة، إذ أنه كان عليه الصلاة والسلام يستشير المرأة فتشير عليه بالشيء فيأخذ به، ولم يقف الأمر عند الإنصاف النبوي، بل تعداه إلى من كان نبه أولا على أثر الوحي في ما حصل للمرأة بعد الجاهلية، فها هو عمر نفسه ينتقل من “عدم دخولهن في شيء من أمورهم” إلى جعل المرأة مستشارة مستنصَحة.
فقد روى البيهقي بسند حسن عن محمد بن سيرين قال: “كان عمر رضي الله عنه ليستشير في الأمر حتى إن كان يستشير المرأة، فربما أبصر في قولها يستحسنه فيأخذ به”، وبهذا يصير عمر شاهدا على مراحل حيازة المرأة لحقها، وارتفاعها إلى منزلها الذي قدره الله لها.
يظهر بهذا أن استشارة المرأة من فعل الصالحين أهل العلم والإيمان، وهو أصل قرآني بلا منازع، ومن لطيف ذلك أن الله تعالى ذكر في القرآن الكريم إشارة نسائية رائعة، وقبول ذكوري أروع، فكلنا يقرأ قوله تعالى في زوج موسى عليه السلام، المرأة الفاضلة الحيية العاقلة “يا أبت استأجره، إن خير من استأجرت القوي الأمين”، وقد فعل “الأب” ما أشارت عليه “الإبنة”، وزوجها لنبي من أنبياء الله تعالى، بل أحد أولي العزم منهم، أفلا يحق لنا بعد كل هذا -على اختصار مخل، والله يغفر لي- أن نقول: “ما خاب من استشار امرأة عاقلة”؟ بلى، ونحن على ذلك من الشاهدين.