اتفاقيات التجارة الحرة الأمريكية الهيمنة عبر الاقتصاد

لم تكن الصلاحيات الاقتصادية الواسعة والممنوحة للرئيس الأمريكي “جورج بوش” لتبقى سلاحاً أمريكياً غير ذي أهمية في سياق ما تسميه الإدارة الأمريكية بـ”الحرب على الإرهاب”، فسلطة ما يسمى بـ”الترويج التجاري” التي تخول الرئيس الأمريكي حق إبرام المعاهدات التجارية، واتفاقيات التجارة الحرة مع من “يرشحه” لذلك، سجل تعاونه السياسي والأمني مع الإدارة الأمريكية في ملفاتها الساخنة حول العالم؛ تتعدى مجرد عقد معاهدات اقتصادية بسيطة، وتتجاوزها إلى استخدام الروابط الاقتصادية واتفاقيات التجارة الحرة، وبناء التحالفات السياسية والإستراتيجية لتعزيز مكانة الولايات المتحدة حول العالم سياسياً واقتصادياً.
لقد تمتع الرئيس الأمريكي بسلطة واسعة، وصلاحيات كبيرة في عقد الاتفاقيات التجارية الأمريكية مع بقية دول العالم؛ حسبما ينص على ذلك الدستور الأمريكي، في ضوء استغلال الحزب الجمهوري لهيمنته على الـ”كونغرس” الأمريكي منذ عام 2002م، والذي أعطى الـ”كونغرس” بموجب قرارات تشريعية للرئيس سلطة الترويج التجاري، ومجالاً واسعاً للمناورة حول المفاوضات التجارية مع دول العالم، ومنح الكونغرس بالمقابل حق الاعتراض النهائي على تلك الاتفاقيات قبولاً أو رفضاً دون تعديلها.
وكان من المفترض أن تنتهي صلاحية سلطة الرئيس في الترويج التجاري عام 2005م إلا أن استمرار نجاح الجمهوريين في السيطرة على مجلسي الـ”كونغرس” قد مددّ تلك السلطات حتى عام 2007م لقيادة جولة المفاوضات مع منظمة التجارة الحرة العالمية، وتخفيف العوائق التجارية حول العالم حسبما أفادت بذلك التقارير الواردة في تبرير هذا الإجراء.
ولذلك فقد سارع الرئيس الأمريكي مع انتهاء مهلة صلاحياته التجارية الواسعة إلى عقد اتفاقيات تجارية مع دول الساحة الخلفية الأمريكية في أمريكا اللاتينية (البيرو، كولومبيا، بنما)، ومع حليفه الاستراتيجي في شرق آسيا (كوريا الجنوبية)، إلا أن مماطلة الكونغرس الأمريكي في مناقشة تلك الاتفاقيات حتى انتهاء المدة القانونية قد وضعها -تلك الاتفاقيات- في دائرة احتمال الرفض؛ لقناعة مشرعي الـ”كونغرس” بعدم جدية أبعادها، وعدم ملاءمتها للاقتصاد الأمريكي المتراجع أصلاً.
والحال أن تلك الاتفاقيات التي عقدها الرئيس الأمريكي بموجب التفويض الممنوح له لم تراع سوى خدمة أهدافه السياسية والعسكرية في منطقة الشرق الأوسط بالذات، وتعزيز قدرة الشركات الأمريكية المقربة من الرئيس الأمريكي في منافسة مثيلاتها الأوروبية في ذات المنطقة، فعلى سبيل المثال لم تكن المآرب الاقتصادية المحضة العامل الرئيسي في توقيع اتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة والمغرب.
فبالرغم من تعزيز تلك الاتفاقية للتعاون الاقتصادي بين البلدين؛ إلا أن تنشيط التبادل التجاري بينهما لم يكن سوى هدف في سلة من الغايات الأمريكية، إذ تنظر الولايات المتحدة إلى المغرب على أنها حليف استراتيجي مهم فيما تسميه بحربها على الإرهاب، في ظل نشاط السلطات المغربية في هذا الشأن.
يضاف إلى ذلك الموقع الاستراتيجي والجغرافي المهم للمملكة المغربية، وتعزيز قدرة الشركات الأمريكية عل منافسة نظيراتها الأوروبية التي سبقتها بعقد اتفاقية الشراكة الأوروبية المتوسطية عام 1995م بهدف إنشاء منطقة تجارة حرة أوروبية أوسطية عام 2001م.
ولعل تورط الولايات المتحدة أكثر في شؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا قد أسهم في تفعيل هذه الاتفاقية التي وقعت عام 2004م، ثُم تمَّت المصادقة عليها من قبل مجلسي النواب والشيوخ الأمريكيين في العام نفسه، ووافق عليها البرلمان المغربي عام 2005م لتدخل حيز التنفيذ أوائل العام 2006م.
وهو ما قد برره مشرعو هذه الاتفاقية بأن من شأنها أن تعزز بناء مجتمعات إسلامية أكثر انفتاحاً وتسامحاً واعتدالاً وفق المفهوم الأمريكي، وهو ما يفسر مضاعفة الولايات المتحدة الأمريكية للمساعدات الممنوحة للمغرب إلى ثمانية أضعاف، سعياً من الإدارة الأمريكية لتعميم هذه التجربة على مثيلاتها التي وقعتها مع عدد من دول المنطقة (البحرين، وعمان، والأردن)، الأمر الذي أوضحه “روبرت زويلك” في حفل إعلان الاتفاق واصفاً هذه الاتفاقية بأنها “معلم هام من معالم مبادرة الرئيس للتجارة الحرة التي تحاول تنمية التجارة المنطقة”.
قد يرى البعض في انتهاء سلطة الترويج التجاري الممنوحة للرئيس الأمريكي لعقد اتفاقات التجارة الحرة مع دول العالم عائقاً كبيراً أمام استمرار النهج الأمريكي في تسخير الاقتصاد لخدمة المصالح السياسية أو العكس.
ولربما تصاعد الضغط الذي تمارسه اللوبيات الأمريكية المعارضة لاتفاقيات التجارة الأمريكية على كل من الـ”كونغرس” والرئيس الأمريكي على حد سواء، تلك اللوبيات التي نجحت في خفض نسبة التأييد الشعبي لعقد مثل تلك الاتفاقيات إلى نسبة 28% فقط حسب استطلاع نشرته جريدة “وول ستريت”، إلا أن النهج الاستعماري الذي لا زالت تتبعه الولايات المتحدة منذ سطوع نجمها على الساحة الدولية سوف يحكم أية سياسيات أمريكية تجاه دول العالم الأخرى؛ في ظل هيمنة المال السياسي، ومصالح الرأسمالية المتوحشة، ورجال الأعمال المتنفذين على دوائر صنع القرار الأمريكي، مما يقلل من احتمالات الضغط لإيقاف عقد مثل هذه الاتفاقيات، أو لنقل: سيهمشها إلى حد بعيد.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *