في مطلع سنة 1994م انهار الاتحاد السوفيتي وتشرذم وتحول إلى خمس عشرة جمهورية، وقبلها بعامين فقط كان هذا الاتحاد يجوب العالم شرقا وغربا، يوزع القروض والسلاح والنفط والغذاء على حلفائه في العالم، وكانت موسكو نقطة المركز بالنسبة لكثير من الدول، لا بل لكثير من الشعوب والأمم، وبعدها بعامين كانت شوارع موسكو تعج بالجريمة والمتسولين والبغايا والمافيا واليأس، كيف ولماذا حدث كل ذلك؟ وهل ما حدث في الاتحاد السوفيتي (وهو جلل) من الممكن أن يحدث في قوى دولية أخرى؟ هل من الممكن أن يحدث للولايات المتحدة؟
الذي حدث سنة 1994م هو أن الاتحاد السوفيتي فقد مبرر وجوده التاريخي وفقد ما يسميه ابن خلدون “العصبية” الداخلية التي تحافظ على تماسك الدولة، ولذلك نستطيع القول بان الاتحاد السوفيتي ذاب من حيث هو تشكيل سياسي وفق نظرية الشيوعي “ماركس” التي تقول بأنه تأتي مرحلة في عمر الدولة تفقد فيها الدولة مبرر وجودها ومسوّغ استمرارها، فتذوب كما يذوب فص الملح مهما كانت كبيرة وعظيمة (نظرية ذوبان الدولة Withering of the State)، ما الذي حدث للجيش الأحمر الذي كان يرعب المارة في شوارع “براغ” و”بودابست” و”بوخارست” و”كراكوف” و”كييف” وغيرها من المدن المكتظة بالملايين من الناس؟ تحول إلى دعابة ومادة للتهكم ومرتعا خصبا للمافيا التي تنهب مستودعات سلاحه وتبيعها بكميات ضخمة وبأسعار خيالية في أصقاع شتى من الأرض. ما الذي حدث للترسانة النووية السوفيتية ولأسلحة الدمار الشامل السوفيتية وللسلاح الكيماوي والبيولوجي السوفيتي؟ ما الذي حدث لحلفاء الاتحاد السوفيتي السابقين؟ كيف تعايشوا مع الانكشاف السياسي والانكشاف العسكري؟ هل يحدث للولايات المتحدة ما حدث للاتحاد السوفيتي؟
بات من المؤكد أن البقية الباقية من هذا العقد ستمثل نقطة محورية في رسم الصورة العالمية ما بين قطبية أمريكية مطلقة قائمة، ومحاور قطبية تتشكل في الأفق قادمة، وفي مقدمتها الصين وروسيا العائدة من تراب الهوان الذي لاقته في زمن “جورباتشوف”.
وقد جاءت قضية نشر درع الصواريخ الأمريكية في بولندا والتشيك لتفرض تساؤلا جوهريا: إلى أين تمضي الولايات المتحدة في طريق إمبراطوريتها المنفلتة، على حد وصف المؤرخ الأمريكي “اريك هوبسبوم”؟ وهل تسعى لقيادة العالم أم للسيطرة عليه؟
هذا التساؤل في واقع الأمر أضحى مصيريا بالنسبة لسكان البسيطة، سيما في ضوء تلك القوة العسكرية الأمريكية المادية غير المسبوقة في تاريخ الحضارات البشرية السابقة، وقد أزعج بادئ ذي بدء كبار المحللين السياسيين والعسكريين على مستوى العالم، ذلك أنه على ضوئه تترتب تداعيات وتبعات لا حصر لها.
ما زال العرب والمسلمون هم الضحية الأولى لكل الحروب التي خاضتها القوى الاستعمارية قديمها وحديثها وذلك منذ أن انفرط عقد خلافتهم، فتناثروا إلى دويلات ضعيفة تابعة للمعسكر الشرقي الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي تارة، وللغربي الرأسمالي بقيادة أمريكا تارة أخرى.
وبعد سقوط المعسكر الشرقي وهيمنة القطب الأوحد أصبح الشغل الشاغل لأمريكا هو العالم العربي والإسلامي، بغية دمجه في استراتيجياتها العليا، من دعم للمصالح الحيوية للكيان الصهيوني، والاستفادة من النفط العربي، والموقع الاستراتيجي الذي يتمتع به، والعمل دون انتشار المد الإسلامي الذي يعيد المسلمين إلى التمسك بدينهم وهويتهم وقيمهم..
وفي ملفنا هذا نستعرض بعض ملامح النظام العالمي الجديد وفق الهيمنة الأمريكية، حيث يكشف الطرق والوسائل التي تنهجها الولايات المتحدة لتحقيق مشاريعها ومصالحها في العالم العربي والإسلامي، كما يقدم بعض الوسائل الكفيلة لمواجهة هذه المشاريع خاصة بعد فشل أمريكا في حربها على العراق وأفغانستان، وفشل الكيان الصهيوني في بسط سيطرته على لبنان وفلسطين؟