مِن أحسن ما يستعين به المسلم على نفسه فيما يصيبه، مما يصيبه من أذى الناس وإساءتهم، أن يتذكر تفريطه في جنب الله تعالى، وحبه لعفو الله عنه، وستره عليه؛ وهكذا رغب الله تعالى أبا بكر الصديق في العفو عن مسطح بذلك: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)؛ يعني: عامل الناس من العفو والصفح، بما تحب أن يعاملك به من ذلك؛ والجزاء من جنس العمل.
ولهذا وعد الله تعالى من ينزل نفسه ذلك المقام العالي بأن يكون أجره على الله، قال تعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) الشورى/40.
قال الشيخ السعدي رحمه الله:” وفي جعل أجر العافي على الله ما يهيج على العفو، وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به، فكما يحب أن يعفو الله عنه، فَلْيَعْفُ عنهم، وكما يحب أن يسامحه الله، فليسامحهم، فإن الجزاء من جنس العمل” انتهى من “تفسير السعدي” (ص 760).
ومن أعظم ما يعين المسلم على سلامة صدره، أن يحرص على بذل النصيحة للمسلمين عامة، وأن يبذلها لله، لأجل علمه برضا الله بذلك، وحبه له.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ الدَّعْوَةَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ) رواه أحمد (12937) والترمذي (2658) وصححه الألباني.
قال الملا علي القاري رحمه الله:” (ثَلَاثٌ) أَيْ: ثَلَاثُ خِصَالٍ (لَا يَغِلُّ): بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّهَا وَبِكَسْرِ الْغَيْنِ، فَالْأَوَّلُ مِنَ الْغِلِّ الْحِقْدِ، وَالثَّانِي مِنَ الْإِغْلَالِ الْخِيَانَةِ (عَلَيْهِنَّ) أَيْ: عَلَى تِلْكَ الْخِصَالِ (قَلْبُ مُسْلِمٍ): أَيْ كَامِلٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَخُونُ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ أَشْيَاءَ وَلَا يَدْخُلُهُ ضِغْنٌ يُزِيلُهُ عَنِ الْحَقِّ حِينَ يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ قَالَهُ التُّورِبِشْتِيُّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْفَائِقِ: إِنَّ هَذِهِ الْخِلَالَ يُسْتَصْلَحُ بِهَا الْقُلُوبُ، فَمَنْ تَمَسَّكَ بِهَا طَهُرَ قَلْبُهُ مِنَ الْغِلِّ وَالْفَسَادِ، وَ”عَلَيْهِنَّ” فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: لَا يَغِلُّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ كَائِنًا عَلَيْهِنَّ، وَإِنَّمَا انْتَصَبَ عَنِ النَّكِرَةِ لِتُقَدُّمِهِ” انتهى من “مرقاة المفاتيح” (1/306).
وفي قول رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سُئلَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ. قَالُوا صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: (هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَدَ) رواه ابن ماجة (4206) وصححه الألباني في “صحيح ابن ماجة”. في ذلك ما يحرض على سلامة الصدر وذهاب وغره.
فما أحسن حال المؤمن في خاصة نفسه والناس من حوله: يدعوهم، ويصبر على أذاهم، ويعفو عنهم، ويبيت وقلبه لا غل فيه ولا حقد لأحد، وإذا كان جزاء الصبر وحده أن يوفى الصابر أجره يوم القيامة بغير حساب، قال الأوزاعي: “ليس يوزن لهم ولا يكال، إنما يغرف لهم غرفا”. انظر” تفسير ابن كثير” (7/89).
فكيف بمن صبر وغفر وسامح ثم رجع إلى قلبه فهذبه بتهذيب الإيمان وصفاه من كدره حتى خلصه من شوائبه؟!