حصار عراق صدام، وشن الحرب على أفغانستان، ثم عراق ما بعد صدام، وتقارير راند وغيرها من المراكز بغرض استهداف الحركات الإسلامية وتصنيفها، ثم مشروع الشرق الأوسط الجديد، فحصار غزة، ومشروع الفوضى الخلاقة، الذي تم تتويجه بتدمير العراق وسوريا واليمن وليبيا، وإعادة إنتاج الأنظمة القمعية القديمة في مصر وتونس، ثم صعود المرشح الجمهوري، بخطابه العنصري العدائي تجاه المسلمين شعوبا وأنظمة ودينا وثقافة وتاريخا وجغرافية، ومشاريعه بخصوص المنطقة عموما، وإسرائيل على وجه الخصوص، ووعوده لها. هذا هو الإطار الذي ينبغي وضع أزمة الخليج ضمن سياقه.
تم تقديم مصطلح “الشرق الأوسط الجديد”، للعالم في يونيو 2006 من تل أبيب. وقدمته وزيرة الخارجية الأميركية في ذلك الوقت، كوندوليزا رايس
جاء ذلك الإعلان تأكيداً لـ”خريطة طريق عسكرية” أنجلو-أميركية-إسرائيلية في الشرق الأوسط. ويتكون هذا المشروع، الذي كان في مراحل التخطيط للعديد من السنوات، من خلق قوس من عدم الاستقرار والفوضى والعنف، والذي يمتد من لبنان، إلى فلسطين وسورية، إلى العراق، والخليج العربي، وإيران، وحدود أفغانستان التي تحتلها قوات حلف شمال الأطلسي.
خرج مشروع “الشرق الأوسط الجديد” إلى العلن في واشنطن وتل أبيب، مع توقع بأن يشكل لبنان نقطة الضغط الأساسية لإعادة تنظيم وترتيب الاصطفافات في الشرق الأوسط كله، وبذلك إطلاق قوى “الفوضى الخلاقة”.
وسوف يتم استخدام هذه “الفوضى الخلاقة” -التي تولِّد ظروفاً لاندلاع العنف والحرب في كل أنحاء المنطقة- بحيث تستطيع الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط وفقاً لحاجاتها وأهدافها الاستراتيجية.
الحملة القاسية التي تشنها عدة دول على قطر لا تستهدف الدوحة وحدها بل تستهدف عزل قطر وحصارها لتقليص وتحجيم دورها الإقليمي، لتوسيع دائرة حصار حماس وخنقها وفرض تنازلات في إطار ما يسمى “صفقة القرن” بعد استئصال الإخوان المسلمين ووضع حماس والإخوان معا ضمن “التنظيمات الإرهابية” وفق ما تستهدفه إدارة ترمب على التوازي مع دمج الكيان الصهيوني بالمنطقة.
لقد بات الربط بين أي جهة أو دولة أو مؤسسة وبين الإرهاب البوابة الواسعة للتصفية والحصار وربما توجيه ضربات اقتصادية وغيرها، وجميعها تحولات نوعية تشهدها مرحلة ما بعد قدوم دونالد ترمب.
وتعد هذه المتغيرات مجرد بداية لما هو أكثر خطورة، وبخاصة في ظل تلاقي الرؤى الأميركية مع رؤى أنظمة عربية على رأسها مصر والإمارات في الخلط المتعمد بين الإخوان والإسلاميين والتيارات الإسلامية المعتدلة وبين التيارات الراديكالية، هذا الخلط الذي بدأ مبكرا على لسان ترمب وحملته الانتخابية ثم رسميا على لسان وزير خارجيته ريكس تيلرسون.
تعد قمة ترمب الأميركية الإسلامية هي نقطة التحول الرئيسة، ففي إطارها جاء تصنيف ترمب لحماس “كتنظيم إرهابي” في ظل صمت عشرات القادة العرب والمسلمين، وفي إطار بيان الإمارات الرسمي جاء اتهام الإخوان المسلمين، أما مركز اعتدال الذي دشنته القمة فاستهل رئيسه تغريداته باتهامات للإخوان تتفق والرؤية الأميركية والإماراتية.
لا يحتاج المتابع للحملة هذه إلى الكثير من التركيز لينتبه إلى وجود العطب الفاضح في أركانها، وعدم اتساقها مع المنطق أو السياق الواقعي للتاريخ المعاصر، فالتصريح المنسوب لوزير خارجية قطر، على سبيل المثال، يهاجم، دفعة واحدة، السعودية ومصر والإمارات والبحرين والكويت ويعلن سحب سفراء بلاده منها ويطالب بمغادرة سفراء هذه الدول خلال أربع وعشرين ساعة. بحسب “القدس العربي”.
وهو أمر خارج تماماً عن سياق الدبلوماسية القطرية المعروفة بمرونتها الكبيرة وبفتحها خطوطاً سياسية دائمة مع أطراف شديدة التناقض مما جعلها قادرة دائماً على التوسّط أحياناً حتى للولايات المتحدة الأمريكية، وتنجح في حلّ خصومات قديمة وفي إنجاز تسويات وصفقات سياسية لا تستطيع دول أخرى تحقيقها.
حرب ضروس
لا يمكن، مع ذلك، استبعاد تأطر الحملة ضمن خلفيّة سياسية، وخصوصاً كونها جاءت بعد القمة الخليجية والعربية الأمريكية مع الرئيس دونالد ترامب، الذي وسّع الاستهداف من الدائرة الكبيرة التي تضم تنظيم «الدولة الإسلامية» وإيران، إلى حركة «حماس» الفلسطينية.
وهو أمر وجد قبولاً لدى بعض القادة العرب، كما هو الأمر مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي أشار في خطابه الذي ألقاه على القمة بوضوح إلى ضرورة استهداف «كل المنظمات الإرهابية»، وفي ذهنه طبعاً حربه الضروس ضد «الإخوان» ونظائرها العربية، بما فيها «حماس»، وهو اتجاه يتشارك فيه السيسي و«ليبراليو» الإعلام العربي مع دولة الاحتلال الصهيوني.
الحملة، بهذا المعنى، لا تستهدف قطر وحدها، بل تستهدف القضية الفلسطينية أيضاً، وتعمل، في الوقت نفسه، على تكريس أركان الاستبداد في مصر وغيرها، وتعويم “المفهوم الإسرائيلي” للإرهاب.
الهجوم على قطر جاء في إطار حملة ممنهجة في الولايات المتحدة الأميركية بالتزامن مع هجمة دول خليجية، فقد قال رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي “أد. رويس”، إن “الولايات المتحدة قد تنقل قاعدتها العسكرية بقطر إلى بلد آخر إذا لم تغير الدوحة من تصرفاتها الداعمة لجماعات متشددة.”
وقال إن “قطر طالما شكلت عتبة مرحبة لجماعة الإخوان ولا أرى أي دولة أخرى في المنطقة حيث يوجد هكذا ترحيب. هناك تاريخ طويل في قطر يبين ترحيبا بالإخوان وتوفيرها ملجأ آمن لهم”.
بالنهاية تشكل قمة ترمب زلزالا سياسيا كبيار ينذر بتحالفات سياسية جديدة لا زالت في طور التشكل، إلا أنها لن تصب في صالح الأمة حيث تقوم على إدارة صراعات المنطقة وإذكائها واختلاق فزاعات ونزاعات وتسويات قسرية، وستغير كثيرا من خارطة الخليج على مستويات عدة، وسيدفع الخليجيون ثمن غبائهم.