التراث.. من الاستشراق إلى الارتزاق مصطفى الحسناوي

الاستشراق هو تلك الدراسات الغربية المتعلِّقة بالشرق الإسلامي في لغاته وآدابه وتاريخه وعقائده وتشريعاته وحضارته بوجه عام، وقد عمل المستشرقون على نشر التراث، وتحقيقه وترجمته من العربية، والتأليف في مختلف موضوعات العلم، ووضعوا الفهارس المفيدة لما في المكتبات من مخطوطات وأصدروا المجلات العلمية المتخصصة، وأنشؤوا المكتبات الخاصة بالمخطوطات ورمموا التالف منها، واعتنوا بالعادات والتقاليد والفلكلور.
وكانت لهم همة عالية في ذلك، تكبدوا فيها المشاق والصعاب، سواء كأفراد بذلوا وسعهم في فهم ثقافة غريبة عنهم، وضبط أصولها وقواعدها ومناهجها وآلياتها وأدواتها، أو بالاشتغال كفريق وجماعة كما هو الشأن في تأليف دائرة المعارف البريطانية، التي تعددت جنسيات الكتاب فيها بين بريطاني وفرنسي وألماني ومجري وغيرهم، واعتنت بكل ما يتصل بالحضارة الإسلامية، دينيًّا، وسياسيًّا، وجغرافيًّا، وعلميًّا، وأدبيًّا، منذ عصر الجاهلية إلى العصور الحديثة، ورتبت على الحروف الهجائية.
والاستشراق مدارس مختلفة ومتنوعة، منها التي ارتبطت بالاستعمار وقدمت خدماتها لصانع القرار الغربي والصليبي والصهيوني ليسيطر على الشرق العربي والإسلامي، ومنها التي استفادت من تراثنا لخدمة حضارتها، فلم تر فيه معول هدم، ولا ركاما من التخلف، بل أخذت منه ما تستخدمه وتستعمله، في قوانينها وعلومها الاجتماعية والتجريبية، وحتى في آدابها، ومنها تلك الحركة المعرفية الصرفة، المستقلة عن أي خلفيات استعمارية سياسية أو عسكرية، والتي قدمت خدمات جليلة للتراث الإسلامي وللمسلمين.
ومعلوم أن المستشرقين، لم يتخذوا جميعهم موقفا معاديا للإسلام، فالبعض منهم دافع عنه بضراوة ضد المفترين عليه، ومنهم من درسه ووقف منه على الحياد، وآخرون تأثروا بالإسلام حتى اعتنقوه ومنهم الفرنسي “ميشو بللر” الذي تخصص في تاريخ المغرب، وكتب بالعربية والفرنسية وأسلم وتزوج من مغربية، والسويسري “جوهن لويس بوركهارت” وكان من أوائل الأوروبيين الذين كتبوا عن عرب السودان، أتقن اللغة العربية، وتفقَّه في الدين الإسلامي، واعتنقه سنة 1809.
أما المجرى “عبد الكريم جرمانوس” فأشهر إسلامه في مسجد دلهي الأكبر، وجاء إلى القاهرة ليتعمق في دراسة الإسلام على يد شيوخ الأزهر، ومن أشهر كتبه “التيارات الحديثة في الإسلام” بالإنجليزية، “القومية العربية” باللغة الفرنسية.
في فترة لاحقة ونتيجة للهزائم المتتالية التي مني بها العرب والمسلمون، وارتباطا بفترة ما بعد الاحتلال والصراع العربي الإسرائيلي، خاصة هزيمة 1967، بدأت تظهر مواقف متعددة من التراث والفكر الإسلامي، ما يهمنا منها في هذه العجالة، تلك الحركة التي دعت لإعادة قراءته وفهمه وغربلته، تحت عناوين من قبيل نقد العقل العربي أو الديني أو الإسلامي، كمحمد أركون وعابد الجابري وغيرهم، وما يميز هؤلاء أمور منها:
رغم اعتمادهم على ما قاله المستشرقون، ورغم مؤاخذات كثيرة على طرحهم، إلا أنهم أصحاب اطلاع، وفهم لما يدعون إليه، كما أنهم اهتموا بفحص النظام المعرفي وتحليل المنهج الاستدلالي، أي لم يقفوا عند الأفكار، بل اهتموا بالأدوات المنتجة لهذه الأفكار، فكانت دراساتهم وفكرهم وفلسفتهم، رغم اختلافك معها، ذات وزن معرفي.
بعد هؤلاء المفكرين بدأت تظهر بعض الأصوات لا يعرف لها أي إنتاج في الساحة، أقرب إلى الارتزاق منها إلى البحث الجاد، اتجهت في نقدها لمضامين العقائد والشرائع والشعائر وحتى الأخلاق والسلوك، بانتقائية ومزاجية، دون أن تفصح عن منهجيتها وأصولها، تعتمد النقل والقص واللصق، والتكرار والاجترار، اكتفت بالنظر في مضامين التراث ونقدها، بدل النظر في الوسائل والآليات التي نتجت وتفرعت عنها تلك المضامين.
وفي مثل هؤلاء يقول المفكر والفيلسوف طه عبد الرحمن: “ولما قصر أهل النظر في التراث عن اكتساب الملكة المنهجية الضرورية لهذا النظر، فإنهم صاروا إلى انتزاع المضامين من النصوص انتزاعا غير معلل ولا محدد”، مع فارق أن هؤلاء ليسوا أصحاب نظر، بل أصحاب تقليد واجترار لما قاله المستشرقون، وقبلهم الشيعة، وبعدهم مفكرو المشاريع العربية المعاصرة الذين ذكرنا بعضا منهم، ويزيدون على تقليدهم ونقلهم أنهم يحاكمون الوحي إلى عقولهم القاصرة، فيقول طه عبد الرحمن: “الذي يتعاطى تأسيس النقل على العقل يصاب بأمراض قلبية، في مقدمتها الغرور، ذلك أنه يجعل من عقله الناقص المحدود معيارا للوحي الذي هو كلام لا حد له”.
فهؤلاء المقتاتون على موائد المستشرقين والمفكرين العرب، بل المقتاتون على فضالاتهم، همهم الوحيد اقتناص الشبهات، وتقديمها على أنها مصائب الأمة وسبب تخلفها، وأنهم اكتشفوا الداء، وأنهم هم الدواء لأمراض التطرف والإرهاب والتشدد والغلو.
فلا هم اعتنوا بالتراث في مجموعه كما فعل المستشرقون، ولا هم أسسوا لمنهج في النظر كما فعل المفكرون، بل قصارى جهدهم، أنهم يقفزون بين فتوى وأخرى، وحديث وآخر، يرفعون عقيرتهم بالصراخ، متوجهين لمراكز البحث والدراسات الغربية والشرقية، ومراكز الاستخبارات العالمية، أن هذا هو الداء، فأعطونا منحة أو تمويلا، أو افتحوا لنا بابا أو منبرا، فنحن الأقدر على اكتشاف أسباب التطرف، ولولا ظاهرة محاربة الإرهاب، والثورة المعلوماتية، لما سمع لهم أي صوت، ولما احتفى بهم أحد، فقد انتهزوا الفرصة ووجدوا الوسيلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *