ليس غريبا إذن أن تعتبر أمريكا التي هي منتج غربي مائة في المائة أن أمن الكيان الصهيوني خط أحمر، وأن تعرضه للتهديد يعني تلقائياً تحريك “الفيتو” وإلا فتحريك الجيوش الأمريكية صوب من يهدده.
“بوش” حين تحدث عن غزو الشرق من جديد وصف الحرب بأنها: “حرب صليبية”، البعض حاول نزع المعنى من الجملة حتى لا ينتبه السائرون نياماً ولا يعودوا إلى خيط التاريخ الموصول، وليظلوا خارج مسيرته.
“بوش” كان يردد صدى ما قاله “سايكس” و”جورو” و”ألنبي”.
حين فتح المسلمون القدس عام 636م كان هذا الفتح إيذاناً بهزيمة الدولة البيزنطية، وإيذاناً بطي صفحة الغرب (الروماني والإغريقي) تماماً في سيطرته على الشرق.. تلك السيطرة التي استمرت قرابة عشرة قرون، من القرن الرابع حتى القرن السادس الميلادي.
الغرب كان يدرك هذه الحقيقة تماماً، حين بدأ انطلاقاته الثانية نحو الشرق من القدس، كان ذلك في حقبة الغزوة الصليبية 1099م بعد ثمانية وثمانين عاماً من الاحتلال الذي كاد أن يتحول إلى واقع كما يقال الآن على ألسنة بعض القادة العرب، استردها صلاح الدين وأوضح في رسالته الشهيرة إلى “ريتشارد قلب الأسد” أن هذا الاحتلال كان شيئاً عرضياً: “ولن يمكنكم الله من أن تشيدوا حجراً واحداً في هذه الأرض طالما استمر الجهاد”.
لكن لم يستمر الجهاد وانتهى الأمر بـ”سايكس” الإنجليزي إلى عقد اتفاق مع “بيكو” الفرنسي 1916م، وتم تقسيم الشرق كله بدقه متناهية، ودخل الجنرال “ألنبي” القدس قائلاً: “اليوم انتهت الحروب الصليبية”.. بعدها بثلاثة أعوام دخل الجنرال “جورو” الفرنسي دمشق وذهب إلى قبر صلاح الدين قائلاً له بعد رقدته فيه بسبعمائة وسبعة وعشرين عاماً: “ها قد عدنا يا صلاح الدين”.. وتكتمل القسمة بغرس اليهود في قلب الشرق، ويقيم الغرب تمثالاً لـ”سايكس” في بلدته بمقاطعة “يوركشاير” مكتوباً عليه: “ابتهجي يا قدس”.. ونجح الغرب في التخلص من “شايلوك” الذي طالما أزعجهم وطالما كرهوه، ونجح في إحكام قبضته على رمز الصراع وبوابة الانتصار طوال التاريخ القدس، و”شايلوك” هو التاجر اليهودي في رائعة شكسبير (تاجر البندقية) الذي أراد استرداد الديْن الذي اقترضه منه “أنطونيو” النصراني وهو من طبقة النبلاء في صورة كيلو لحم حي من جسده!
التاريخ خيط متصل موصول أوله بآخره، ليس مجرد سنين تتراكم بعضها فوق بعض، بل هو تركيب حي مستمر في حركته، مستمر في تطوره لأنه في حقيقته تجسيد لمسيرة الإنسان.
ليس غريبا إذن أن تعتبر أمريكا التي هي منتج غربي مائة في المائة أن أمن الكيان الصهيوني خط أحمر، وأن تعرضه للتهديد يعني تلقائياً تحريك “الفيتو” وإلا فتحريك الجيوش الأمريكية صوب من يهدده.
“بوش” حين تحدث عن غزو الشرق من جديد وصف الحرب بأنها: “حرب صليبية”، البعض حاول نزع المعنى من الجملة حتى لا ينتبه السائرون نياماً ولا يعودوا إلى خيط التاريخ الموصول، وليظلوا خارج مسيرته.
“بوش” كان يردد صدى ما قاله “سايكس” و”جورو” و”ألنبي”.
الموت جوعاً إذن هو عقاب من يتنبه إلى حقيقة الحقائق في هذا الصراع التاريخي، والانتباه يعني أن تسمى الأشياء بمسمياتها وأن ترى الحاضر على خلفية التاريخ الذي من وعاه فقد وعى حاضره ومستقبله.
فالقدس هي رمز الصراع، وهي أيضاً بوابة الانتصار، والكيان الصهيوني هو ذيل الأسد الرابض غرباً، وهذا هو المشهد على حقيقته.
“سايكس بيكو” ليست الأخيرة، هناك الكثير من “السايكوسات” موضوعة على طاولات القرار في الغرب، أفغانستان بالأمس، والعراق اليوم، والسودان غدا، والبقية تنتظر الدور، وإن طال الانتظار.
هذا ليس قدراً محتوماً، بل هي معادلات صراع لها قوانينها الثابتة الشرعية والكونية، الأمر لا يعدو الانتباه إلى هذه القوانين وأرقامها المعبرة ودلالاتها الصحيحة، هذا هو معامل الضرورة الذي ذكره صلاح الدين رمز الشرق إلى “ريتشارد قلب الأسد” رمز الغرب.