عرف الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى العدالة في نخبة الفكر بقوله هي: “ملكة تحمل على ملازمة التقوى. والمراد بالتقوى اجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة”.
فالعدالة بهذا المنظور لا تعني أن يكون الإنسان معصوماً؛ والصحابة لا يدعي أحد لهم العصمة ولا يجوز له ذلك؛ فقد روى الخطيب البغدادي بسنده إلى إمام التابعين سعيد بن المسيب أنه قال: (ليس من شريف ولا عالم ولا ذي سلطان إلا وفيه عيب؛ لابد؛ لكن مِن الناس مَن لا تُذكر عيوبه. من كان فضله أكثر من نقصه وُهِب نقصه لفضله) (الكفاية في علم الرواية: 138).
فإذا صدر من أحد الصحابة ذنب، فلا يعني هذا خروجه من دائرة العدالة لأن مقومات العدالة لا تنص على عدم إتيان الذنوب، كما تنص العصمة على ذلك، فكل من كان مسلما بالغاً عاقلاً سالماً من أسباب الفسق، سالماً من خوارم المروءة فهو جدير بتعديل المعدلين (الكفاية وتدريب الراوي)، ولا يضره بعد ذلك أن تكون له هنّات وزلات، فالزلة لا تسقط بها العدالة كما نص على ذلك أبو حاتم الرازي في الجرح والتعديل.
عدالة الصحابة في القرآن
لقد وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة تتحدث عن الصحابة الكرام مشتملة على مكارم كثيرة منحها الله تعالى لهم، بما قدّموا من أموالهم وأنفسهم في سبيل نصرة دين الله.
وهذه الآيات من الكثرة والصراحة بحيث لا يستطيع أحد معها أن ينال من صحابي إلا من كان ناقص الإيمان، مريض القلب والعياذ بالله تعالى.
فمن هذه الآيات قوله تعالى: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (التوبة:117)، وقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (آل عمران:110).
وأكثر العلماء على أن المراد بهذه الآية هم المخاطبون عند نزول الوحي وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نص على ذلك الخطيب وابن حجر.
ومنها قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (التوبة:100).
ومنها قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (الفتح: 29)، وقوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (الفتح:18)، قوله تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (الحشر:8-10).
ولو لم يأت ذكر الصحابة في القرآن الكريم إلا في هذه الآيات الثلاث لكانت كافية لهم في الدنيا والآخرة، كافية لمن يأتي بعدهم في اتخاذ الموقف النبيل تجاه من أكرمه الله تعالى اقراراً بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ويمنعه عمن يشاء.
عدالة الصحابة في السنة النبوية
لقد اشتملت السنة النبوية على أحاديث كثيرة تشهد بفضل الصحابة رضوان الله عليهم وتنص على احترامهم وإكبارهم، والأحاديث التي تتحدث عن الصحابة على نوعين: الأول يذكر الصحابة بشكل عام دونما تخصيص؛ والنوع الثاني يمثل خصوصيات لبعض إفراد الصحابة المحيطين برسول الله صلى الله عليه وسلم أو الذين لهم مواقف معلومة أو صفات معينة.
ولا يسعنا في هاته الأسطر القليلة أن نعرض جميع تلك الأحاديث لأنها كثيرة جداً إلى حد أن صنّف العلماء الأوائل فيها مصنفات كبيرة، فقد ذكر الإمام أحمد بن حنبل في كتابه (فضائل الصحابة) ما يقارب الألفي حديث من تلك النصوص، لكننا سنكتفي بذكر طرف يسير منها، فإن مَن لا يكتفي بالقليل ولا يذعن لرسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال ما صح عنه منها لن يُجدِ معه الكثير بلغ عدده.
ومن تلك النصوص قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه) (البخاري ومسلم).
وقال صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان فيغزو فئام -أي جماعة- من الناس فيقولون هل فيكم من صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فيقولون نعم فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فيقولون نعم فيفتح لهم. ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقولون نعم فيفتح لهم) (البخاري).
وعن أبي بردة عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) (مسلم).
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة؛ ثم إن بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ولا يؤتمنون؛ وينذرون ولا يوفون؛ ويظهر فيهم السمن) (البخاري).
وقال صلى الله عليه وسلم: “آية الإيمان حب الأنصار؛ وآية النفاق بغض الأنصار” (البخاري).
وقال صلى الله عليه وسلم في حق الأنصار أيضا: (لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله؛ ومن أبغضهم أبغضه الله) (مسلم).
وعن عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الله الله في أصحابي لا تتخذوهم بعدي غرضاً؛ فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أن يأخذه). (أخرجه أحمد في مسنده 5/54 والترمذي: 13/244).
وعن أنس قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان أحُداً، فرجف بهم، فقال صلى الله عليه وسلم: “اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق و شهيدان”.
هذا طرف من أحاديث كثيرة تشير إلى مكانة الصحابة رضوان الله عليهم عند الله تبارك وتعالى وعند نبيه صلى الله عليه وسلم، والمؤمن الحق حين يرى قافلة الإيمان المباركة تمضي فعليه أن يبذل جهده ليكون في الطليعة؛ فإن لم ينل ذلك فلا أقل من أن يتمنى أن يصل إلى مرتبتهم وأن يلقى الله ومحبتهم في قلبه، وينزع الغل والحسد والبغضاء لركب المؤمنين الأوائل.