مجاهدة النفس في الله تعالى من أعظم أسباب الوصول إليه سبحانه، فإن جهاد النفس والهوى هو أعظم الجهاد فهو الجهاد الأكبر.
قال تعالى: “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا”.
قال ابن القيم رحمه الله معلقا على الآية: “علق سبحانه الهداية بالجهاد فأكمل الناس هداية أعظمهم جهادا، وأفرد الجهاد جهاد النفس وجهاد الهوى وجهاد الشيطان وجهاد الدنيا فمتى جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته، ومن ترك الجهاد فاته الهدى بحسب ما عطل الجهاد.
قال الجنيد: والذين جاهدوا أهواءهم فينا بالتوبة لنهدينهم سبل الإخلاص، ولا يتمكن من جهاد عدوه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطنا، فمن نصر عليها نصر على عدوه ومن نصرت عليه نصر عليه عدوه” الفوائد.
وعند الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “المجاهد من جاهد نفسه في الله” صحيح الجامع.
وروى أبو نعيم وغيره أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: “أفضل الجهاد أن يجاهد الرجل نفسه وهواه” صحيح الجامع.
وقال ابن الجوزي رحمه الله: “تأملت جهاد النفس فرأيته أعظم الجهاد” صيد الخاطر.
وقال ابن القيم رحمه الله: “سمعت شيخنا يقول: جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين، فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولا” روضة المحبين.
ومن دُرر كلام الإمام ابن عقيل في كتابه الفنون: “ولو لم يكن من بركات مجاهدة النفس في حقوق الله والانتهاء عن محارم الله إلا أنه يعطف عليك فيسخرها لك -أي النفس- ويطوعها لأمرك حتى تنقاد لك، ويسقط عنك مؤونة النزاع لها والمجاهدة حتى تصير طوع يدك وأمرك، تعاف المستطاب عندها إذا كان عند الله خبيثا، وتُؤثر العمل لله وإن كان عندها بالأمس كريها، وتستخفُّه وإن كان عليها ثقيلا، حتى تصير رقّا لك بعد أن كانت تستَرقّك”.
فالنفس تصهرها المجاهدة فتنفي عنها الخبث، وتعيد قواها المذخورة فتستيقظ من غفلتها، فينبغي سلوك سبيلها وإن كان في ذلك مشقة، لكن طريقها أكيد وفريد لعلو النفس وإصلاحها وتزكيتها، وقد يطول بك الأمر فاصبر واحتسب.
من صور مجاهدة النفس
ومن صور مجاهدة النفس مجاهدتها على الإكثار من نوافل الطاعات والقرابات.
قال الناظم:
وجاهدنها بالالزام النوا *** فل الكثيرة وهجران الهوى
وفي لسان العرب: “وجماع معنى النفل والنافلة ما كان زيادة على الأصل، وسميت الغنائم أنفالا لأن المسلمين فصلوا بها على سائر الأمم الذين لم تحل لهم الغنائم، وصلاة التطوع نافلة لأنها زيادة أجر لهم على ما كتب لهم من ثواب ما فرض عليهم.
والنفل والنافلة: ما يفعله الإنسان مما لا يجب عليه وفي التنزيل العزيز “وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ”، النفل والنافلة عطية التطوع من حيث لا يجب، ومنه نافلة الصلاة”.
ومما ورد في فضل النوافل عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم “إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضتــه عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنــه” رواه البخاري.
قال الإشبيلي رحمه الله في كتاب التهجد: “واعلم أن هذه النوافل والرواتب بإثر الصلوات المكتوبة وقبلها وإن كانت ليست بمفروضة فينبغي للعبد أن لا يخل بها، ولا يفرط في شيء منها وأن يزيد عليها إن أمكنه الزيادة لما فيها من البركة والفوائد الجمة”.
وقال الغزالي رحمه الله في الإحياء: “رأس مال العبد في دينه الفرائض، وربحه النوافل والفضائل، وخسرانه المعاصي”.
وليعلم أن الحث على الإكثار من النوافل ومجاهدة النفس من أجل ذلك فيه فائدة جبر النقص والخلل الذي يعتري الفرائض.
ففي الحديث الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: “إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم: الصلاة قال: يقول ربنا جل وعلا لملائكته -وهو أعلم-: أنظروا في صلاة عبدي أتمَّها أم نقصها، فإن كانت تامة كتب له تامة، وإن كان انتقص منها شيئا قال انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فإن كان له تطوع قال أتموا لعبدي فريضته من تطوعه ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم”.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “وفي السنن عن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، حتى قال إلا عشرها، وعن ابن عباس قال: ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها.
وهذا وإن لم يؤمر بإعادة الصلاة عند أكثر العلماء لكن يؤمر بأن يأتي بالتطوعات بما يجبر نقص فرضه” الفتاوى.
وقال الشاطبي رحمه الله: “إذا كان الفعل مندوبا بالجزء كان واجبا بالكل، كالآذان في المساجد الجوامع أو غيرها.. وصدقة التطوع والنكاح والوتر.. وسائر النوافل الرواتب فإنها مندوب إليها بالجزء ولو فرض تركها جملة لجرح الترك لها.. فالترك لها جملة مؤثر في أوضاع الدين إذا كان دائما، أما إذا كان في بعض الأوقات فلا تأثير له فلا محظور من الترك” الموافقات.
وقال الإشبيلي رحمه الله في كتاب التهجد في معرض الكلام عن رواتب الصلوات: “وإيضا فإنه يجبر بها ما انتقص من الفريضة يوم القيامة، وقد تقدم الحديث” بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك مما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
والإنسان مجبول على النقصان، وحديث النفس أشغل، ودواها أعضل، والذي يأتي بالصلاة المكتوبة كاملة قليل، وقد قال بعض العلماء في قول الله تعالى: “وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ” أن هذا الخطاب إنما هو للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وأن النافلة إنما هي له وحده صلى الله عليه وسلم لأنه عليه السلام مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأيضا فإن صلاته عليه السلام كانت كلها كاملة لا يحتاج إلى إصلاحها، ولا إلى جبر شيء منها، فكان كلما صلى من نافلة زائدا له على صلاته، والنافلة في كلام العرب الزيادة، وأما سائر الناس فإنما هي لهم جبران-يجبر بها ما كان من نقصان وكفارات لما تلبسوا به من الخطيئات، وهذا وإن كانت صلاته صلى الله عليه وسلم كاملة على ما وصف فغير بعيد أن يكون في أصحابه من يأتي بالصلاة كاملة لا يحتاج إلى جبر شيء منها، بل في أكثرهم وكذلك في غيرهم فتبقى لهم نوافلهم يزيدون بها في درجاتهم، ويتقربون بها من ربهم، على أنه قد تقدم قوله عليه السلام: “منكم من يصلي الصلاة كاملة” وفيه الكفاية.
وفي كلامه عليه السلام الهدى والنور، ويكون أيضا في الطائفتين من يكون النقصان في صلاته قليلا، ويكون له نوافل كثيرة، فعلى الإنسان أن يواظب على هذه النوافل الرواتب، ولا بد إن لم يقدر على الزيادة فيها أن يأخذ نفسه بها ويحملها عليها، وأن يعد من عمله لإصلاح خلله، ويكثر من نافلته بجبر فريضته، وكل واحد منا يعلم أين صلاته وأين قلبه فيها، وكيف تفرغه لها، واهتمامه بها، والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله”.