لقد قدر الله أن نعيش زمانا صارت التفاهة سلوكا ومنهجا وأسلوبا في الحياة يربوا فيه الصغير ويهرم فيه الكبير، حتى إذا استنكرها المستنكرون -ممن سلم من داء التفاهة- قيل له تعاكس مجتمعا يريد أن يعيش المرح، وتعقّد حياة يراد لها أن تسعد وتنطلق، فتتحول التفاهة إلى مرح وسعادة وانطلاق، في غفلة من العقلاء، ورغما عن ذوي الألباب، الذين يريدون أن يعيشوا الحياة بمعنى سام وغاية نبيلة وهدف صادق يتماهى مع العقيدة والقيم والهويّة والتاريخ؛ تاريخ العز والمجد والجد والكرامة، الذي صار في نظر منظري التفاهة ماضيا بئيسا، وبئس الفكر الذي صار ينتقص ماضيا مشرقا ويمجد حاضرا تعيسا.
جل متتبعي هذا المنحنى المرير والمنحدر الخطير الذي تتدحرج فيه التفاهة وينحدر فيه عشاقها يجمعون على أن الأمر ليس فلتة ولا لحظة عابرة، لاسيما وهو واقع يغرس كل يوم مخالبه وأنيابه في أوصال الجد والمسؤولية والتعقل، فإن الأمر صار منهجا يراد له من جهات ما أن يكون البديل الناجح لإغراق الأمة المسلمة في أوحال التفاهة، وتبلغ بها درجة الإدمان الذي يصعب معه الاقلاع والترك، ليتمكن أعداء الأمة وخدمهم المطيع من خونة الأوطان والشعوب المسلمة من السيطرة التامة على عقول الأمة حتى لا تتاح لها فرصة التنبه والاستيقاظ والهبوب بعد غفلة عمرت طويلا.
إن السيطرة على العقول لم تعد حكرا على من يوصفون بالأمية والجهل والبساطة والسطحية، بل الأجيال على اختلاف مستوياتها التعليمية والثقافية والفكرية والعمرية صارت خاضعة في عمومها إلى هذه السيطرة وشغلت بالتفاهة التي تناسبها، فمنهم من شُغل بكرة القدم ودهاليزها المضنية المشغلة، ومن شغل بالأفلام والمسلسلات التي تكرس الغباء والضياع وتجعل الشعوب كالضباع لا عقل ولا وعي ولا فهم ولا إدراك، وهناك من شغل بتفاهات البرامج الاجتماعية والغناء والألبومات الموسيقية على اختلاف أنواعها الموغلة في البلادة والوقاحة والفساد الأخلاقي، ومن شغل بتفاهات خصوصيات أصحاب قنوات اليوتيوب والمقاطع المصورة التي ينشرها الذين يسيل لعاب أغلبهم على كثرة الإعجابات/الجيمات، ولو على حساب الأعراض والشرف والدين والكرامة من أجل الربح السريع، ومن شغل بتفاهات الموضة حلاقة ولباسا وتكنولوجيا.. ومن شغل بالتفاهة على وسائط التواصل الاجتماعي المتناثر هنا وهناك.. وهلم جرا مما يصعب عده وحصره.
ولكن وجب التنبيه عليه، لعل الرسالة تلامس قلوبا وتقرع أسماعا تعيش لحظة غفلة ولم تتوغل بعد في براتين التفاهة وتوابعها.
إنه لمن العيب والعار أن تكون أمة الاسلام أمة تافهة ولا شغل لها إلا التفاهة ولكنه قدر لها حيث أرادت ذلك “ولكنكم غثاء كثاء السيل”، إنها الغثائية التي صارت تطبع الحياة فكرا وممارسة ووجدانا، فإلى الله المشتكى، فمتى العود والعود أحمد، ومتى الرجوع والاستيقاظ من الغفلة، وهلموا العزم والإرادة القوية للقطع ما هذا المنهج الذي جعل من حياتنا جحيما لا يطاق، ويجر معه أجيالا تبلغ الكثرة الكاثرة كالسيل الجارف، فأي مستقبل نستشرف؟ وأي أمل نستطلع؟ وبأي تفاؤل نستمسك؟
مرة أخرى ناقوس خطر مدو مع نواقيس كثيرة، لكن يبدوا أن الخرق اتسع على الراقع وأن الضباء تكاثرت على خراش، والله من وراء الجميع محيط، فلا تستسلم بقية الباقية من الاستنكار والاستهجان والتنبيه والبيان، فكم من فئة قليل غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين.