الناجحون هم التافهون مصطفى الحسناوي

 أسماء عديدة عادية جدا، بل تافهة جدا، لمواطنين بسطاء بتعلم متدن، أو بدون أي تعليم، أو مجرد فنانين يصنعون محتوى غنائيا أو فكاهيا تافها، تصعد أسماؤهم إلى السطح بين الفينة والأخرى، تتداولها تارة مواقع التواصل، وتارة منابر إعلامية إلكترونية، وتارة أخرى قنوات الإعلام العمومي الممول من جيوب المواطنين، فيصبحون حديث الشعب، وتتوارى وراء شهرتهم قضايا ومواضيع مهمة، وتغيب أسماء وازنة ومؤثرة وتتراجع مفسحة المجال لأمثال “النيبا” “ساري كول” “إكش وان” “علال القادوس” “سعد لمجرد” “حليوة” “أدومة”…

أسماء تخصصت في الكلام الساقط والنابي، أو في التهريج والإضحاك المقزز، أو في الشذوذ الجنسي، أو اشتهرت بالفضائح…. أصبح أصحابها نجوما تسلط عليهم الأضواء، ويجنون الأموال الطائلة، جراء ملايين المتابعين الذين يتهافتون على رداءتهم وتفاهتهم، فكيف يتم ذلك؟ ومن المسؤول عنه؟

البوز التافه أو ما يعرف بالباد بوز “bad buzz”، والشهرة الزائفة، هي صناعة قائمة الذات، قد يصنعها الذي ينشد الشهرة وإثارة الضجة، باستخدام الأدوات المتاحة، خاصة وسائل التواصل الاجتماعي، باللعب على ميولات الجمهور والعزف على الأوتار المثيرة والحساسة لديه، وقد تتدخل أياد أخرى لصناعتها والاستثمار فيها، والربح من ورائها سياسيا أو اقتصاديا، أو لتخدير الرأي العام وتوجيه الجماهير.

ساهمت مواقع التواصل في ما يمكن تمسيته دمقرطة الرأي والفرص والتعبير، بحيث أصبح لكل من هب ودب، نفس الفرصة في  التصدر والشهرة، ونفس فرصة التعبير عن الرأي، كأي عالم أو مصلح أو مخترع أو مبتكر أو أديب أو مثقف أو رجل قانون أو داعية أو رجل سياسة… وهكذا تم إغراق الساحة بكل أنواع وأشكال المضامين والمحتويات النافعة والضارة والتافهة، على قدم المساواة، بل كان حظ المحتوى التافه والرديء، أكبر وأوفر وأقوى، مصدرا بذلك تلك الأسماء التافهة التي تحدثنا عنها، في مطلع المقال.

من جهة أخرى ساهم التسابق على المشاهدات والنقرات، وجلب المتابعين والمشاهدين، وسيطرت ثقافة البوز والتريندينغ والطوندونس…، كل هذا دفع المنابر الإلكترونية والإذاعات الخاصة، إلى تصدير هؤلاء المشاهير المزيفين، وتقديم هذا المحتوى الرديء والتفافه، حتى احتل واستوطن واجهات هذه المنابر، وسيطر على أوقات الذروة بالإذاعات الخاصة، لتتحول هذه المنابر الإلكترونية والمسموعة، لأدوات للتدمير، تدمير الثقافة والصحافة والعلم والأخلاق والذوق والأدب والقيم والهوية….

لكن هل لوسائل التواصل والمنابر الإلكترونية والإذاعات الخاصة أي قيمة بدون جمهور؟

الحقيقة المتوارية وراء هذا الاكتساح وهذا النجاح للتفاهة والرداءة، هو الإقبال الجماهيري المنقطع النظير، الذين يذهبون لمواقع التواصل بمحض إرادتهم، ويسجلون الإعجاب، والذين يفتحون المذياع على المحطة الفلانية، ويتتبعون المنبر الإلكتروني ويدخلون موقعه وصفحته، هم مواطنون مغاربة يفعلون ذلك باختيارهم، وهم أنفسهم الذين يستنكرون ويدينون، انتشار التفاهة، فأي انفصام هذا؟

بعيدا عن هذا التقاطع المصلحي، بين الرغبة في الشهرة، لدى المشاهير المزيفين، والرغبة في جلب النقرات والمشاهدين، لدى المنابر الخاصة، والرغبة في إشباع الفضول والغرائز والشهوات، لدى الجمهور، وما تتيحه مواقع السوشل ميديا، من سيولة المعلومة وسهولة التواصل والانتشار، يبقى الإشكال المطروح، لماذا تنجر منابر الإعلام العمومي المدعومة والممولة، لنشر هذه التفاهة؟ رغم عدم حاجتها للنقرات والمشاهدات، واستقلاليتها المالية، حيث أن تمويلها مضمون، ورغم أنها من مؤسسات الدولة التي ينبغي أن تساهم في تنزيل برامج التوعية والتثقيف والإصلاح، في تعاون تام مع باقي المؤسسات التعليمية والتربوية والثقافية والدينية…

الجواب عن هذا السؤال متشعب وعميق، بعض أجزائه بادية ظاهرة، وبعضها ضامرة مستترة خفية، يمكن تلمسها من خلال مؤشرات وإشارات عديدة.

يتزامن انتشار هذه الظواهر والترويج لها، أحيانا، مع مواضيع حساسة تهم المجتمع، وقضايا مهمة تشغل النخبة، قد تكون مطالب أو مخاوف، سياسية أو نقابية أو ثقافية أو صحية….، ليتضح أن الترويج للتفاهة غرضه عند الإعلام العمومي، هو توجيه الرأي العام، والتحكم به، وتوجيه اهتمامه، والتشويش على قضاياه، وهي أهداف وغايات يحققها أيضا الإعلام الخاص ومواقع التواصل، إضافة للأهداف المادية.

الربح سياسي إذن، ومالي اقتصادي أيضا، هو ربح مادي، وأيضا ربح معنوي، لكن ماذا عن التكلفة؟

التكلفة باهظة، قيميا وأخلاقيا، سوسيولوجيا وبسيكولوجيا، تكلفة سنؤدي ثمنها كمجتمع على المدى القريب، وستستمر آثارها على المديين المتوسط والبعيد، سننتج عاهات داخل مجتمعنا، سيصبح المثال والقدوة، هو ذلك التافه الذي لا يشتغل ولا يقدم للمجتمع شيئا، سنضرب معاني الجد والاجتهاد، ونضرب قيمة المدرسة والعلم والتعليم والعمل، لأن الناجحون هم التافهون.

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *