قبل الحديث عن صناعة “القابلية التطبيع”، نقول إن التطبيع جريمة كبرى، وخيانة عظمى، وعدوان على حق المسلمين قاطبة، لأن فلسطين ليست أرضا للفلسطينيين وحدهم، ففيها مسرى رسول الله وثالث أكبر المساجد عظمة في الإسلام.
كما ننوه بشدة إلى أنه حتى لو طبّعت كل الدول مع الكيان المغتصب، فليس للشعوب أن ترضخ وترضى، بل عليها أن تمانع وتقاطع وتدافع، كما ليس لأحد كائنا مَن كان أن يسلّم شبرا من أراضي المسلمين لأعدائهم.
ولو كان التطبيع جائزا لرضي به المسلمون في الجزائر التي ظل فيها المحتل الفرنسي 130 سنة، وكان يحسبها امتدادا للتراب الفرنسي وللحضارة الرومانية، لكن تفانت الأجيال واستشهد المليون ونصف من الأحرار، واتبع المسلمون علماءهم من أمثال البشير الإبراهيمي وابن باديس، وباقي زعماء الجزائر، حتى رجعت إلى المسلمين بعد أكبر عملية مسخ تعرض لها شعب ووطن.
فليس في الإسلام رخصة تبيح لأيٍّ كانا حاكما أو محكوما أن يفرط في شبر واحد من أرض المسلمين ولو كان في صحراء لا حياة فيها ولا تاريخ، فما بال سدنة التطبيع بأرض النبوءات والملاحم والقدس، أرض التاريخ والحضارة والمحشر، قلب الشام ومسرى الرسول ومصلاه بالأنبياء؛ فهل يفرط فيها سوى خائن لله ورسوله وكتابه وعامة المسلمين وخاصتهم؟
ثم بعد ذلك، يبقى “التطبيع” خيانة للفلسطينيين اللاجئين الذين صبروا في المخيمات عقودا مديدة ليحفظوا حقهم في العودة، فكيف يرضى المسلمون خيانة إخوانهم في الدم والدين والهوية، فيعينون عليهم عدوهم بتقويته اقتصاديا وسياسيا ودبلوماسيا؟ من ذا الذي يجرؤ على إباحة ذلك والسماح به؟
فكل تطبيع مع العدو يهدر حق العودة الذي لا يطيق الكيان الصهيوني أن يسمعه، ويسارع الزمن ليحرز تطبيع دول الخليج حتى يوطنوا ثلاثة ملايين لاجئ فلسطيني في صحاري الخليج، فكيف يستقر مقامه في أرض فلسطين المغتصبة وملايين البشر تطالبه بأراضيها ودورها وأملاكها.
إن التطبيع اليوم هو تآمر مع العدو من أجل إدخاله إلى قلب الأمة، هو فتح للطريق أمام جيوشه، التي تتطلع إلى خَيْبَر إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست صفقة القرن ومشروع الشرق الأوسط الكبير سوى مقدمات كبرى لهاته النتائج الوخيمة.
إن الشعوب الإسلامية كانت تنتظر من مصر والأردن وتركيا أن تتراجع وتفسخ اتفاقياتها التطبيعية مع الكيان الغاصب، نظرا للجرائم التي يرتكبها في حق المسلمين، فأصبحت على خبر تطبيع أبناء زايد؛ ولئن كانت الدول الأخرى قد طبعت بعد حروب ومشاكل يعلمها الجميع فإن الإمارات طبعت بعد حرب ناعمة من طرف الكيان الصهيوني لاقتصاد البلاد عبر تزاوج مالي في الشركات الكبرى التي يملكها الصهاينة، وبعد الجرائم التي اقترفتها الإمارات في اليمن وليبيا وتمويل الانقلابات المضادة، والتي أصبحت أوراقها وملفاتها تهدد العروش، وتخضع الجباه والرؤوس، الأمر الذي عجل بصفقة التطبيع المشؤومة، في وقت كورونا التي فرضت حالات الطوارئ الصحية في أغلب البلدان الإسلامية، والتي ضمنت معهاالإمارات عدم إمكانية خروج الشعوب المسلمة للاحتجاج الشعوب والتعبير عن رفضها وشجبها.
نقول هذا مع تأكيدنا على أن مناهضة التطبيع ومقاومتهإذا كانت واجبة، فلن تتم إلا إذاحارب الممتنعون المناهضون والمخلصون “القابلية للتطبيع” التي بدأت تظهر فيالشعوب العربية والإسلامية بعد اتفاق أوسلو الذي فرق الفلسطينيين، وأعطى نوعا من المصداقية للتطبيع بعد فشل عباس وخيانة دحلان، الأمر الذي سهل تراجع الكيان الغاصب عن كل ما وعد به واشترطه، كما هي عادته.
وقد اشتد توسع هذه “القابلية للتطبيع” بعد اندلاع الحرب العالمية على ما سمي بالإرهاب، فسكن الخوف من تهمة الإرهاب قلوب أغلب المسلمين خصوصا في البلدان العربية، وضيق على دعم المقاومة بالمال، بعد اعتبار أعمالها إرهابا وحركاتها إرهابية.
ولعل من أكبر تدابير صناعة “القابلية للتطبيع” تجلت في محاربة عقيدة الولاء والبراء، حيث اعتبر كل حديث عن كفر اليهود وعدائهم للأنبياء تطرفا، وتشجيعا على الإرهاب، فمنع الدعاء عليهم في خطب الجمعة في المساجد، وبالمقابل تم الضغط على المفاهيم العَلمانية لخدمة التطبيع الثقافي، فبدأنا نرى في المغرب شعارات من قبيل “تازة قبل غزة”، كما بدأنا نشاهد في القنوات الرسمية أشرطة تطبيعية خطيرة تمول بالمال العام من قبيل “تنغير جيروزليم”، كما اخترق صناع القابلية للتطبيع الجسم الثقافي، فبدأنا نسمع عن زيارات لإعلاميين و”ممثلين”، وتبعت ذلك استضافات لعسكريين سابقين تحت غطاء الذاكرة المشتركة والتعايش وغيرها من المسوغات الباطلة.
كما أن الاختراق الاقتصادي كان له حظه في صناعة “القابلية للتطبيع” إذ عرفت بعض المعارض التجارية مشاركة لشركات صهيونية تصدى لها الغيورون المناضلون ضد التطبيع.
وثالثة الأثافي تمثلت في التحدي الكبير للصهيوني الألماني الذي نفذ مشروعه في بناء نصب تذكاري لهولوكست صهيوني كبيرمع مرافق متعددة، في ضواحي مراكش، هذه القضية التي أظهرت الاختراق الصهيوني لبنيات متعددة في المجتمع المغربي وكذا للإدارة المحلية، دون أن نغفل قضية عصابة تزوير رخص الإقامة وأوراق الجنسية لفائدة مجموعة من اليهود، كل ذلك يجري دون كلل ولا ملل من أجل خلق “القابلية للتطبيع” عند الدولة والشعب.فكما أن هناك جيوش تعمل من أجل خلق القابلية للتطبيع لدى الحكام، وفإن هناك أيضا أضعاف تلك الجيوش تشتغل ليل نهار لتخلق القابلية نفسها لدى الشعوب المسلمة.
إن “القابلية للتطبيع” مع العدو، تماثل “القابلية للاستعمار” التي صاغ نظريتها الأستاذ الكبير مالك بن نبي رحمه الله تعالى؛ فكما أن القابلية للاستعمار لا تنشأ بين عشية وضحاها، بل لا بد لها من شروط اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية تتضافر لتصنع واقعا يستجيب للاحتلال، فإذا صنع هذا الواقع صعب على الشعب مقاومته واستسلم قواه تدريجيا، نظرا لتمَكن قوى الاحتلال من مفاصل الدولة، الذي يخولها التحكم بعد ذلك في ثروات البلاد ورقاب العباد.
فإذا كان الاحتلال كما عاشه آباؤنا وأجدادنا نتيجة لمشروع اشتغل عليه المحتل لعقود وربما قرون قبل الغزو العسكري؛ فكذلك التطبيع السياسي للدول لا ينشأ بغتة، ولا يخرج إلى الوجود صدفة تحدث بشكل تلقائي، بل يسبق ذلك صناعة “القابلية للتطبيع”، عبر اختراق المجالات المتعددة لحياة الشعوب، مثل الثقافة والفن والإعلام والتجارة والاقتصاد والمهرجانات السياحية والثقافية والرياضية، فيضمحل الإحساس بالعداوة للغاصب، وتتلاشى القناعة في المدافعة والممانعة والمقاومة، فيخرج الحكام والسياسيون بقرار التطبيع الذي يكون بمثابة ترسيم الوجود الفعلي للكيان في الوطن وحريته في الاستثمار والشراكة في كل الميادين؛ فإذا استكمل التطبيع مشروعه، فسنرى لا قدر الله احتلالا مباشرا ناعما، يسود فيه القرار الصهيوني، في شرق أوسط كبير بحجم الدول العربية، فيتحقق حينها معنى “الجوييم” التلمودي في الشعوب العربية، التي يعبث بعض حكامها اليوم بقضية فلسطين.
ومع ذلك كله فإن التطبيع لدى الشعوب فعل أو سلوك لا بد أن يمر عبر محاربة المفاهيم الصلبة التي تشكل العقيدة لدى المسلم، فالحرب التي شُنت على مفهوم الجهاد والولاء والبراء والكفر والإيمان والتكفير، والإرهاب والتطرف والانغلاق والغلو، وما ضخ من مفاهيم ملتبسة خلال عقدين كاملين، من قبيل القبول بالآخر والتعايش الذي لا يسوَّق له إلا بمعنى التسوية بين اليهودي العادي واليهود الصهيوني الغاصب والمعتدي، والقبولبهيمنة اليهودي والنصراني وحكمهما في ظل دولة مدنية لو كان فيها ثلاثة يهود لجاز في قوانينها حكمهم للشعب المسلم، ومثله التسامح الذي يعني الرضا بعقائدهما مهما كانت مناقضة للدين الإسلامي وعقيدته، وليس مجرد احترام للعيش المشترك، الذي ضمنه الإسلام قرونا لكل الطوائف، في زمن كانت الإبادات تُعمل في اليهود من طرف النصارى.
فهذه الأشياء كلها التي ذكرناها كانت توجه بشكل دقيق لصناعة “القابلية للتطبيع” لدى الحكومات والشعوب، ويصرف عليها الكيان الصهيوني المليارات سنويا، لتشكيل واقع يقبل به دولةً كاملة السيادة في قلب الأمة.
إن على المؤمنين بعدالة قضية الأقصى الشريف والغيورين على فلسطين السليبة، وكل مسلم يفهم خطورة التطبيع على مستقبل الأمة، أن يشارك جميعهم بجهدهم الكامل في منع صناعة هذه القابلية لدى الشعوب المسلمة للتطبيع مع عدوها المغتصب لمسرى رسولها الكريم صلى الله عليه وسلم، ومن يسأل كيف؟ فالجواب بكل شيء ولو بحكاية قصة الاحتلال الصهيوني للقدس وفلسطين على طفل في فلاة بعيدة.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.