يدعو سعيد نشيد في جلّ مشروعه إلى:
– مراجعة علاقتنا التقليدية بالغيب:
فالإيمان مسألة شخصية لا يجب أن تناقض العمل اليومي للإنسان، وكذا ظروفه وأحواله الخاصة. بل ينبغي أن تتعايش مع كل ذلك، ليحيا الإنسان في اطمئنان. يؤكد ناشيد قوله هذا كل مرة، وكأن الأدوار الإيديولوجية للإيمان تتنافى وأدواره الأنطولوجية.
– إعادة تعريف الوحي في زمن الحداثة:
فقد مرّ المصحف، قبل أن نمسكه بأيدينا، بثلاث مراحل: الإلهام الإلهي، الكلام النبوي (وفق ثقافة عصر النبي ولغة قومه)، المصحف العثماني. وعليه، فإذا كان القرآن كتاب سياسة واقتصاد وقانون وعلم في زمن نزوله، فإنه لن يكون إلا كتاب “جلال وجمال وابتهال” في زمن الحداثة هذا. وهذا نفي للأدوار السياسية والعلمية والقانونية والاقتصادية للقرآن في زمن الحداثة الغربية، ولا يصلح لأن يكون نفيا لها في زمن الحداثة في شرطها العربي (والمغربي خاصة).
– التداوي بالفلسفة:
وهنا، يرجع سعيد ناشيد إلى أقوال الفلاسفة، وما أكثرها؛ يرجع إليها بغرض التداوي، وكأنه يريد أن يقول تشافوا بالفلسفة بدل تشافيكم بما اعتدتم التشافي به (القرآن). فيتفنّن ناشيد في الاقتباس، والتأمل في الاقتباس. وينزع إلى مواجهة الغضب والحزن والكره وألم الوجود وظمأه بحكمة الفلاسفة، متناسيا حكمة القرآن في ذلك.
– الاختيار العلماني:
فالمطلوب هو أن تتأسس السياسة على العقلانية والقيم الإنسانية، لا على أحكام الشريعة. وعلى هذا الأساس، فإن تضمين كل خطاب سياسي بإحدى المرجعيات الدينية، ما هو إلا إخفاء للمصالح الحقيقة للزعماء والحكومات والتنظيمات السياسية. يقول ناشيد بكل هذا، ويتغافل (أو لعله يغفل) عن ألف مصلحة يمكن إخفاؤها بألف خطاب عقلاني وإنساني (إيديولوجيات عقلانية وإنسانية).
هذه هي الأطر الأربعة لمشروع سعيد ناشيد، وهي مناقشَة بتفصيل في كتبه: “قلق في العقيدة”، “الحداثة والقرآن”، “الاختيار العلماني وأسطورة النموذج”، “التداوي بالفلسفة”، “دليل التدين العاقل”… إلخ. فلنترك مناقشة هذه الكتب بتفصيل إلى مقال آخر، ولنتناول بالنقد “قواعد التدين العاقل” كما أوردها ناشيد في كتابه “دليل التدين العاقل”.
خمس عشرة قاعدة (1) يعرضها سعيد ناشيد في هذا الكتاب:
– “الإيمان رهان شخصي”:
وفي هذا، إهمال للأدوار التي يلعبها الإيمان في المعارك التاريخية، وخاصة في مجتمعات عريقة التدين كالمغرب.
– “تعدد الحقيقة الدينية”:
وفي هذا، تفكيك للعقيدة الواحدة التي تجمع المغاربة، في زمن هم فيه في أمس الحاجة إلى عقيدة توحدهم لمواجهة “آلهة الرأسمالية المتوحشة” التي تعيش اليوم على الهدم والتفكيك وخلق الحروب والفتن.
– “لا ثوابت في الدين”:
وفي هذا، استهداف للثابت الديني، وبالتالي للمشترك المجتمعي، ولأدلوجة الدولة أيضا… إلخ. إنه تصور لعقيدة الفرد خارج تاريخه الخاص، بل وخارج التاريخ ككل. إنه ترجيح لكفة الوجود على حساب التاريخ، ووضع لأنطولوجيا الفرد على النقيض من وجوده الاجتماعي. وعوض أن يعي الفرد شرطه “الاستعمار الجديد”، فيرتبط بالغيب على مقاس وعيه هذا؛ عوض أن يفعل ذلك، يطالبه سعيد نشيد بالسكر الدائم في “وجوده الأنطولوجي”.
– “يرى الله الأعمال والمعاملات لا العقائد والعبادات”:
وكأن الأعمال والمعاملات تنتج عن عدم، وكأن المقاصد لا وسائل لها. والحقيقة، أنّ العقائد والعبادات وسائل للأعمال والمعاملات، وليس جميع الناس قادرين على بلوغ الأعمال والمعاملات بالتفكير الفلسفي والوعي باللاوعي والوجود الاجتماعي. وإذا أردنا أن نتكلم بشكل أدقّ، فإن الضعف يعتري كل البشر، والنزوع إلى الخلود لا يخلو منه وجدان، فلاسفة ومفكرين، ماديين ومثاليين، خاصة وعامة… إلخ.
– “الشعائر الدينية تطوعية غير إلزامية”:
وهذا تشكيك آخر فيما تعارف عليه المغاربة، بعد إقراره بالنص وإجماع الفقهاء وقرارات أولياء الأمور (السلاطين والملوك). إنه تشكيك فيما حُسم من أحكام العبادات، حيث وجوب بعضها واستحباب بعضها الآخر. ولكن، فلنتساءل: هل كانت العبادات حكرا على أحد حتى يحررهم ناشيد منها؟ وهل يؤديها الناس بهوس حتى ضاعت مصالحهم الدنيوية ليصبح من واجبنا التخفيف من حدة هذا الهوس؟ وهل نحن، في زمن السيولة والكسل والتواكل، في حاجة إلى التشبث بالإلزام أم إلى تفكيكه بترك الشعائر للاختيار؟
– “انتهاء مشروعية الفتوحات والغزوات والقتال الديني بعد فتح مكة مباشرة”:
لا حق للأفراد بممارسة العنف داخل الدولة، وخاصة المادي منه، لأنه الأكثر وضوحا وقابلية للتحديد. الدولة وحدها هي التي تمتلك العنف، وقد امتلكته في المدينة على عهد الرسول العظيم (صلى الله عليه وسلم). وهذا هو خطاب الحقيقة في حظر ممارسة العنف من قبل الأفراد، بدل خطاب الإيديولوجيا الذي فضل ناشيد الترويج له. أما الفتوحات والغزوات والقتال الديني، فهي ما تزال نافذة فينا ومضيعة لمصالحنا، تمارَس علينا ولا نمارسها. ليس بوسائل الماضي، ولا بنفس بناه التحتية، ولا بنفس إيديولوجياته، ولكنها لا تزال نافذة فينا تحت أقنعة: التحديث والتنوير وحماية الديمقراطية وحقوق الإنسان… إلخ. وهي أقنعة يحتفي بها الكثير من “خلعائنا”، لينسبوا الإجرام في نهاية المطاف لمن لم يرتكبه: شعوب الجنوب، ومنها الإسلام والمسلمون.
– “الحجاب عادة وليس عبادة”:
وفي هذا، تزييف للنقاش الفكري والسياسي والإيديولوجي الوطني بإشكالية زائفة. فهل إشكاليتنا هي البحث عمّن ترتدي الحجاب ومن لا ترتديه؟ وهل نحن في حاجة إلى تفكيك “منظومة الحكم الشرعي” بالتمييز بين العبادات والعادات؟ ألا تغنينا، إلى حدود الساعة، القاعدة التي صاغها أبو إسحاق الشاطبي: “الأصل في العبادات التوقف حتى يرد الإذن، والأصل في المعاملات الإباحة حتى يرد الحظر”؛ ألا تغنينا هذه القاعدة عن كل نقاش يستهدف من وراء الحجاب حصونا أخرى؟
– “تعدد الزوجات ليس سنة نبوية”:
لتعدد الزوجات حكم الجواز في الشريعة الإسلامية، وذلك في حدود أربع زوجات، وبشرط العدل بينهن. و”السنة” عند الفقهاء تأتي بمعنى “المندوب”، ولا نعرف كيف ساقها ناشيد هنا في قضية “تعدد الزوجات”.
أما تعدد زوجات النبي (صلى الله عليه وسلم) فوق الأربع، فهو تصرف جائز لدخوله في “تصرفاته التشريعية الخاصة” (سعد الدين العثماني، نقلا عن شهاب الدين القرافي)، وما هو بمستحب ولا بواجب. ولا نعرف من يقول بدخول هذا التصرف في “السنة” (بمعنى الاستحباب)، حتى يناقشه ناشيد على هذا الأساس.
– “كلام الرسول غير معصوم من الخطأ”:
تعدد التصرفات النبوية واختلافها (وفيها ما هو اجتهادي ودنيوي، لا يمكن اعتباره معصوما)، هو ما يدل على ما يمكن أن يشوب التصرف الاجتهادي والدنيوي النبوي من الخطأ، وما واقعة “أنتم أعلم بأمر دنياكم” عنا ببعيد.
وضع معايير تقريبية وتغليبية لقبول الحديث أو رفضه، هو ما يدل على قابلية كل قول نبوي للمراجعة والتمحيص سندا ومتنا، كما يدل على خطأ الطريق الذي بلغنا به الحديث.
فإذا كان كل هذا متضمَّنا في كتب التراث الفقهي للمسلمين، فأي معنى آخر يقصده ناشيد إن لم يكن يقصد إخراج “السنة الصحيحة” من “دائرة الوحي”، عكس ما تعارف عليه عامة المسلمين وفقهاؤهم؟ وماذا سيبقى من العصمة إذا استحضرنا تعريف سعيد ناشيد للقرآن بأنه “إلهام إلهي معبّر عنه بكلام نبوي، ليخضع فيما بعد لجمع مصحفي لم يخلُ من تدخل بشري”؟
أليس هذا تفكيكا للمرجعية التي يجتمع عليها المغاربية في أصولها الأصيلة؟ أليس هذا تعويضا لأصالة الوحي بأصالة “الإلهام والتخيل والتواصل مع غيب مجهول”؟ أليس هذا نسفا للواضح من العقائد بالغامض من شكوك مَن وجد ضالته ومعناه في “اللامعنى أو في تعدد المعاني”؟
– “منع الاختلاط في صلاة المسجد، مظهر من مظاهر الانحطاط”:
لمّا كانت الصلاة ترفعا عن الشهوة، وتعطيلا مؤقتا لميل الرجل للأنثى أو العكس، ها هو ذا ناشيد يريد أن يحولها إلى فضاء لتحقق ذلك الميل. أو لعله يسعى إلى تكوين “الرهبانيين” في شرط “انبعاث الشهوة”. ولمّا كانت الصلاة انقطاعا مؤقتا عن الشهوة الجنسية، بهدف الخروج من الغابوية باستمرار وبمكابدة، ها هو ذا سعيد ناشيد يريد أن يحولها إلى طقس من طقوس العودة إلى الغابوية الأصيلة في كل إنسان.
هذه هي نتيجة عدم استيعاب “الدين في التاريخ، نشأة وتطورا”، فلا يستغربنّ أحدٌ من “توظيف الصلاة لغير ما كانت له”.
– “الشريعة هي كلام الفقهاء، وتعكس مفاهيمها حقبة التوسعات الإمبراطورية في العالم القديم”:
وفي هذا نسف لثنائية “الثابت/ المتغير” في الشريعة الإسلامية، هكذا دون اعتبار للتدرج في سير التاريخ نحو نضجه ورقيه، ودون اعتبار لهذه الثنائية في شروطنا لا خارجها. لو أننا كنا أما دعوة إلى مراجعة معايير التمييز بين الثابت والمتغير في شرطنا التاريخي الخاص، لكان ذلك أهون. ولكننا هنا أمام دعوة إلى تحويل الثابت إلى متغير كليّة، وتلك فكرة معروفة، ما تنزل في عقل، إلا وتنتشر فيه كما “تنتشر النار في الهشيم”.
أما إرجاع الشريعة إلى الشرط التاريخي لورودها، فهو لا ينفي بالضرورة حاجتنا إلى استرجاعها في شرط تاريخي آخر.
– “القرآن ليس دستورا”:
قليل من المعاصرين من يعتبر القرآن دستورا معاصرا (بمعنى “القانون الأسمى للدولة”)، وذلك لعدة اعتبارات ذكر سعيد نشيد بعضها في كتابيه: “دليل التدين العاقل”، و”الحداثة والقرآن”. إلا أن هذا لا يعني تخليف أحكام القرآن ومثله الخالدة وقيمه السامية وأخلاقه الفاضلة من قبل المشرِّع الدستوري، وإلا فإننا سنكون أمام تشريع دستوري لا يستحضر الخصوصية المغربية والثقافة الوطنية للمغاربة وشرطهم التاريخي الراهن، مجتمعا ودولة.
وبالإضافة إلى كل ذلك، فإن المتخصص في التأريخ للقوانين، لا يغفل عن الدور القانوني والدستوري الذي لعبه القرآن في مجتمعات لم تكن لتعرف القواعد القانونية في شكلها المعاصر.
– “لا أحد يملك حق الكلام باسم الإسلام”:
وفي مجتمع إسلامي، يترجم الفقهاء ويوقعون عن رب العالمين، لتنتظم أحوال الناس وتستقر الدول ويستتب أمنها.
وفي دولة تجد نفسها في حاجة إلى “حماية الشريعة ظاهرا لتحميها باطنا”، يتكلم “ولاة الأمور وفقهاؤهم” باسم الإسلام.
ولمخاطبة شعوب مسلمة، في معارك تاريخية ملحة (كمقاومة الاستعمار)، سيكون للإسلام صدى آخر غير أصداء الذين ينصت إليهم سعيد ناشيد، وما ملاحم جيش التحرير المغربي عنا ببعيدة.
– “الخوف لا ينتج غير النفاق الديني”:
وهذا من المواقف اللاجدلية، التي لا ترى الخوف إلى شرا. وإلا فالخوف في الحب، والحب في الخوف. ولذلك، فكما ينتج الخوف الشديد تدينا لا يطمئن صاحبه، فإن الحب الشديد ينتج السيولة والتحلل من الالتزامات. والواجب هو أن تخاف وتحب، وأن يكون مثالك هو التوازن بينهما، وإن كان تحقق ذلك المثال مستحيلا.
لو كانت “طوبى” سعيد نشيد -“مجتمع بلا تخويف ولا ردع”- قابلة للتحقق، لما كانت الدولة، ولما كان القانون. والحقيقة، أنّ شيوعية الماركسيين نفسها لا تتحقق إلا بالردع والتخويف و”ديكتاتورية البروليتاريا”. كما أن الليبيرالية نفسها قد تأكدت واستمرت في العالم بالتخويف، تحت أقنعة الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان… إلخ. فأي حبّ محض يريد ناشيد أن يدافع عنه في خضم هذا الخوف المستمر؟
– “مبدأ حسن المعاملة أن تعامل الناس كما تحب أن يعاملوك”:
وقناعة سعيد ناشيد هنا، هي قناعة كانط إذ يقول: “تصرف كأنك تشرع القانون للبشرية جمعاء”.
ونحن نقول: “يا ليتكانط عاش معنا في دول الجنوب، ليشرع لنا وللرأسمالية بنفس الطريقة. أما التشريع للإنسانية جمعاء في عالم المثل، فيجيده الأطفال وهم يشاهدون الصراع بين الخير والشر في الأفلام الكرتونية”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1): سعيد ناشيد، دليل التدين العاقل، دار التنوير، الطبعة الأولى، 2017، من ص 27 إلى ص 85.