تعتبر القضية الفلسطينية قضية أمة بأكملها، فمنذ فتحها زمن عمر بن الخطاب وهي تعرف اهتماما متزايدا لما تحضى به مدينة القدس من مكانة عظيمة في الإسلام، ففيها المسجد الأقصى والبقعة المباركة وهو مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيه أمَّ الأنبياءَ والمرسلين، وفلسطين من أرض الشام التي أوصى النبي صلى اللله عليه وسلم بسكناها عندما تجند الأجناد في الأوطان، وفي فلسطين يقتلُ مسيحُ الهداية (عيسى بن مريم) عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام مسيح الضلالة (المسيح الدجال)..، إذن فارتباط المسلمين بأرض فلسطين لا يحكمه التاريخ أو الوجود العربي بها أو الجغرافيا ومنطق الأغلبية، بل تحكمه روابط دينية عقدية هي التي تشكل نضالهم التاريخي في وجه أي محتل له مهما بلغت قوته، وطال زمان احتلاله، وسيفرح المؤمنون بنصر الله..
الحرب الصليبية الصهيونية لاسترجاع مملكة “أورشليم”
دانت الشام بدين الإسلام وصارت فلسطين ومدنها حواضر إسلامية، ولقيت اهتماما متزايدا من خلفاء المسلمين على مرِّ التاريخ، لكن تطلع النصارى لخيرات الشرق بعدما وصلهم بريق نموها العمراني والحضاري والاقتصادي، مع حقد أحبارهم على الإسلام، وضعف قوة المسلمين بسبب التصارع حول الحكم، مما جعل الشام عبارة عن دويلات صغيرة..، جعل البابا “أوربان الثاني” يدعو لحملة صليبية على دولة الإسلام بحجة استرجاع أماكنهم المقدسة، فكانت النتيجة أن استولى الصليبيون على بيت المقدس وعاثوا فيه فسادا، فقتلوا الرجال والنساء، والشيوخ وأطفال، بل حتى النصارى المقدسيين، وبقي بيت المقدس والمسجد الأقصى الذي حوِّل إلى إسطبل للبهائم قرابة القرن إلى أن قيض الله صلاح الدين الأيوبي فكسر شوكة النصارى وحطم الصليب في معركة حطين، لكن الحقد الصليبي المستمر جعل أمة الصليب بين الفينة والأخرى يعلنونها حربا صليبية لاسترجاع مملكة “أورشليم”.
بعد معركة حطين بقيت بعض الحواضر بأيدي النصارى، ولما اجتاح الغزو المغولي شرق بلاد المسلمين وأطل على مشارف بلاد الشام، بايع الصليبيون المغول وأعلنوا معهم حربا جديدة لاجتثاث المسلمين، لكن الله عز وجل قيض بطلا آخر هو سيف الدين قطز الذي شتت الجيوش المغولية-الصليبية في وقعة عين جالوت في فلسطين، وخاب أمل أمة الصليب مرة أخرى..، بعد ذلك قامت دولة الخلافة من جديد على أيدي بني عثمان وكانت بلاد الشام إيالة من إيالاتها..
الدولة العثمانية ودخول مرحلة جديدة
توسعت الدولة العثمانية في أوربا حتى بلغت دول البلقان، وفي إفريقيا حتى بلغت الجزائر، وحاربوا الصفويين في إيران، لكن الأيام دول، فبعدما ضعفت سلطتهم في الداخل والخارج، حتى شبهت الخلافة العثمانية بالرجل المريض، الذي تداعت عليه أمم الكفر من كل حدب وصوب، وكانت أول الخطوات في بداية القضية الفلسطينية مع الكيان الصهيوني رسالة من زعيم الصهيونية “هرتزل” إلى السلطان عبد الحميد الثاني يعرض عليه قرضاً من اليهود يبلغ عشرين مليون جنيه إسترليني، مقابل تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ومنح اليهود قطعة أرض يقيمون عليها حكماً ذاتياً. وقد رفض السلطان عبد الحميد مطالب “هرتزل”، ومما ورد عنه في ذلك قوله: “لقد حصل شعبي على هذه الإمبراطورية بإراقة دمائهم، وقد غذوها فيما بعد بدمائهم، وسوف نغطيها بدمائنا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها منا.. ليحتفظ اليهود ببلايينهم، فإذا قسمت الإمبراطورية، فقد يحصل اليهود على فلسطين دون مقابل، إنما لن تقسم إلا على جثثنا، ولن أقبل بتشريحنا لأيِّ غرض كان”.
وبعد اندلاع ” الحرب العالمية الأولى” سنة [1332هـ/1914م] بدأ اهتمام بريطانيا بفلسطين وبموضوع الاستيطان اليهودي يتزايد، ولذلك فقد طلب “هربرت صمويل” -وهو يهودي في الحكومة البريطانية- من وزير خارجية بريطانيا العمل على إقامة دولة يهودية في فلسطين بمساعدة بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، فبعث “صمويل” بمذكرة اقترح فيها إقامة محمية بريطانية في فلسطين يسمح لليهود بالهجرة إليها على أن يتمتع هؤلاء اليهود بحكم ذاتي في فلسطين، ثُمَّ تطور الأمر -بعد ذلك- لتصبح دولة موالية لبريطانيا، وفي أواخر سنة [1334هـ/1916م] قامت “المنظمة الصهيونية” بإرسال مذكرة إلى الحكومة البريطانية تطالب فيها بإنشاء دولة قومية لليهود في فلسطين، نظير خدمات جليلة سوف تقدمها لها بعد ذلك، فاستجابت بريطانيا وسعت إلى إصدار “وعد بلفور” بعد أن تحققت أن إنشاء تلك الدولة يحقق أهداف بريطانيا ويرعى مصالحها في المنطقة، ويمكنها من بسط نفوذها على فلسطين والتحكم في “قناة السويس” وتأمينها من الشرق، مما يعزز من موقفها ويحكم قبضتها على البلاد العربية التي استعمرتها.
وتحت ظل الاحتلال البريطاني العسكري، تنامت قوة المستعمرات والمنظمات الصهيونية، بل شكلت “الوكالة اليهودية” ما يشبه حكومة ظل تحت رعاية المستعمرين البريطانيين تعنى بكل الشؤون الداخلية والخارجية، من عسكرية وزراعية وتعليمية.. إلخ.
واستمدت هذه الحركة قوة من دعم فروعها في مختلف أنحاء العالم أولا، ومن عدة دول غربية وشرقية أبرزها بعض دول الاتحاد السوفييتي السابق التي وفرت السلاح والضباط والمجندين، وبريطانيا بوجودها العسكري الكبير في فلسطين (120 ألف جندي خلال الثورة الفلسطينية في العام 1936م)، والولايات المتحدة الأمريكية التي أظهرت انحيازا كاملا إلى جانب الحركة الصهيونية.
ثم جاء قرار تقسيم فلسطين الذي أصدرته “الجمعية العامة للأمم المتحدة” سنة [1366هـ/1947م] مُحبطًا ومُخيِّبًا لآمال الشعوب العربية التي كانت تتطلع إلى حيادية تلك المؤسسة الدولية، فقد كشف بجلاء عن ازدواجية المعايير التي تضبط أحكام وقرارات تلك المؤسسة، وعن خضوعها لنفوذ الدول الكبرى، واستسلامها لإرادة تلك الدول ومصالحها.
ولبيان موقف الغرب حيال القضية الفلسطينية وما يقدمه للكيان الصهيوني من خدمات نضرب مثالا براعية مصالحه في كل المحافل الدولية، إنها الولايات المتحدة الأمريكية التي تتفق سياستها تجاه المسلمين وسياسة الكيان الصهيوني، إنها الحرب على الإسلام للتعجيل بمجيء مسيح السلام، وهم في الحقيقة إنما يعجلون بخروج المسيح الدجال الذي ينتظره اليهود ويقودهم لمحاربة المسلمين..