بعض من يطلقون على أنفسهم صفة دارسي التاريخ روَّجوا -ويروِّجون- مقولات لا يسأمون من ترديدها وتكرارها، وهذه المقولات لا تساق في معرض وضع وتحديد الأسس الصحيحة لدراسة التاريخ، بل تقحم في ثنايا حديثهم الموجه دائماً للهجوم على كل ما له صلة بالإسلام، فيتخذونها تكأة للتنفير من الرموز الإسلامية: حضارة وشخصيات، ودعوة لنبذ كل ما له علاقة بهذا التاريخ تحت دعاوى أصبحت مملولة وممجوجة مثل: التطور، التقدم، النهضة، التحرر..
وهؤلاء الذين اتخذوا التاريخ مجالاً لنفث سمومهم غالبًا ما يخرجون بنتيجة، هي: أننا حتى نبرأ من تلك العيوب -التي توصلوا إليها بدراستهم القاصرة-، لا بد لنا من اتخاذ العلمانية مبدء للحياة، فنفرق بين ما هو دين وما هو دنيا، ونعطي ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، ونقيم حياتنا على العلم البعيد عن العواطف..
هذا هو مجمل الفكرة التي تدور في فكر الذين أرادوا للأجيال الإسلامية -في ظل الاستعمار الغربي- أن ترسخ في نفوسهم، واستدلوا عليها بصنوف من التزوير والتشويه، فرموا التاريخ الإسلامي بأنه تاريخ أشخاص (وقصدهم تشويه تاريخ الأئمة والمصلحين الذين كان لهم دور في التصدي للاحتلال وقيمه العلمانية)، وأبرزوا من هذا التاريخ كل الجوانب السلبية، وكتموا كل الجوانب المضيئة، وحملوا الإسلام والحضارة الإسلامية وزر كل مخالف عاش في ظلالها، ومرغوا -بكل خِسَّة ووقاحة وظلم واضح- كل الصفحات المشرقة بالتراب، وسوَّدوا الكتب الكثيرة بأهواء نفوسهم وخزاياهم، وأسقطوا على كل مكرمة عيوبهم، فاستحالت مثلبة، وسلبوا حق الدفاع عن المتهم، فكانوا خصوماً وقضاة في ثوب واحد.
ماذا نجد إذا نظرنا خلفنا خلال قرن، وهي الفترة التي نُحِّيَ الإسلام بالقوة عن أن يقول كلمته في حياة الناس؟
لقد ضرب بحجاب صفيق على كل الحوادث والشخصيات التي كان لها أثر لا يمكن إنكاره في تحرر الشعوب من شرور المحتلين الغاصبين، وإبقائها في الظل، وبتر كل ما يتعلق بها من الكتب والدوريات، في حين توجهت الأنظار والأفكار إلى شخص واحد من أجل غرس حقيقة: أن الأمة قد خلقت من أظافر قدميه، وخيراتها نبعت من تحت أخمصيه، وأنه المخلص!
وقد حكى لنا التاريخ هذه الازدواجية بين من صنعه الغرب ليحمل مشعل الحرية الزائفة التي تدعو إليها العلمانية وقد قدمت له مقاليد العباد والبلاد بالنار والحديد، وبين المصلح الذي تمسك بقيمه وهويته ودينه يدافع عنها ويرفض انسلاخ الأمة عن ثوابتها ومقدساتها وأعلامها وماضيها.
ومن حلبات الواقع التي شهدت ذلك أرض الخلافة العثمانية يوم اصطُنِع الأفاك كمال أتاتورك على أنه منقذ الدولة العثمانية من مخالب الامبريالية التي صنعتها الثورة الفرنسية التي تتشدق بشعارات ظاهرها الخير (الإخاء والمساواة والعدل والحرية) وباطنها التفسخ والانسلاخ من كل علاقة ربانية أو صلة عبودية لرب الأرض والسماوات، في حين حورب وأبعد شيخ الإسلام في الخلافة العثمانية الإمام مصطفى صبري وكان مصيره النفي والإبعاد وتبرئ القريب والبعيد..
وفي تونس لقي الشيخ عبد العزيز الثعالبي (1874-1944) -وهو أبرز مناهضي الاحتلال الفرنسي- العداء من بورقيبة وأنصاره لأنه أراد الحفاظ على هوية تونس العربية الإسلامية، بينما أراد هؤلاء ربطها بالغرب، وبفرنسا خاصة، وعمل بورقيبة خلال حكمه على محو آثار الشيخ الثعالبي وتصفية دوره من كتب التاريخ، بل أصبح يتهكم عليه كثيراً في خطبه..
وفي المغرب صار الاشتراكي المهدي بن بركة شهيد الشهداء وإمام الإصلاح، وهو الذي كان يتبنى أفكار معسكر الشيوعية والاشتراكية الذي باء بالخذلان والخسران ومن بعده معسكر الرأسمالية..، وفي المقابل غيب العلماء السلفيون المصلحون الذين أطروا الحركة الوطنية لمحاربة المحتل الغاصب بل كان لهم السبق في ذلك، كالشيخ محمد بن العربي العلوي وتلميذه الجبل الأشم محمد تقي الدين الهلالي الذي كان له صولات وجولات مع المحتل الغاصب..
إن تصدير العلمانيين المتملقين وتنحية المصلحين المخلصين من خارطة الإصلاح والنهوض لم يجن على هذه الأمة إلى الضعف والتفرق والهوان.
فمتى نقرأ تاريخنا من غير تحريف المبطلين وتنغيص العلمانيين، حتى نعلم أن صناع المجد هم من ساروا على درب الجيل الأول؟