لماذا يستهدف التاريخ الإسلامي؟ ولماذا تستهدف الدولة الأموية؟ د. محمد العبدة

..مصطلح التجديد له وقع حسن وله صدى مقبول، ولكن التجديد عند هؤلاء لا يعني إلا شيئا واحدا يلازمهم ويلازمونه ألا وهو تحطيم التراث، وذلك لإظهار العصرنة والحيادية كما يزعمون، وهي حيادية ممجوجة، كما لا يخفى أثر الشعوبية الحاقدة والتي تعمل من وراء الستار.

القول أن تاريخنا كله دماء ومؤامرات هذه الحملة التي ظهرت في هذا العصر الذي تحطمت فيه القيم الإنسانية من أين جاءتهم هذه الجرأة؟
ربما يكون بعض الكتاب لا يذكرون هذا عن تعمد، ولكن المتتبع لأخبارهم يدرك أن هناك أصابع خفية تثير هذا الشغب وهذه الشكوك، فيتلقفها بعض الناس الذين يريدون الظهور بمظهر (الناقد) وبمظهر الفهم الجديد للإسلام، فهم يمارسون تحطيما للتراث وهم لا يشعرون.

إن المتتبع للكتابات في الصحف والمجلات، والمتتبع للندوات الثقافية والسِّجالات العامة والخاصة، لا بد وأن يلاحظ أن بين هؤلاء فئة تدعي لنفسها شيئا تسميه (التجديد) والمقصود التجديد في التراث والتاريخ.
ومصطلح التجديد له وقع حسن وله صدى مقبول، ولكن التجديد عند هؤلاء لا يعني إلا شيئا واحدا يلازمهم ويلازمونه ألا وهو تحطيم التراث، وذلك لإظهار العصرنة والحيادية كما يزعمون، وهي حيادية ممجوجة، كما لا يخفى أثر الشعوبية الحاقدة والتي تعمل من وراء الستار، وبما أن هذا التحطيم لا بد أن يكون صعبا، إذن فليبدؤوا بالتاريخ فهو أسهل الأمرين وأحرى أن يصدق الناس ما يثيرونه من شكوك وشبهات وخاصة أصحاب العقول الضعيفة.
عظمة الحضارة الإسلامية
لا نستطيع في هذه العجالة أن نبين لهؤلاء الطاعنين كل تفاصيل تاريخ المسلمين، بحلوه ومره، وصعوده وهبوطه، والجانب السياسي والجانب الحضاري، وما فيه من نشر الإسلام ونشر العدل والرحمة للشعوب التي وصلها الإسلام، فهذا شيء يطول ويحتاج إلى مجلدات ولكن نقول لهؤلاء من ناحية المنطق وبدهيات الأمور:
هل يعقل أن تنشأ حضارة وتمتد لتغطي أكثر المعمورة يومها، وتستمر حتى اليوم وإلى أن تقوم الساعة، أن تكون نتاج أمة ممزقة غارقة في الدماء -كما يحاولون تصويرها-؟
وهل يمكن أن تستمر أمة رغم ما أصابها من ويلات ودمار من أعدائها إذا لم تكن تستند إلى دين وخلق ومدنية؟
هل الإسلام لم يطبق إلا زمن الخلفاء الراشدين كما يقولون، وكأن الدول الكبرى: الأموية والعباسية والعثمانية لم تقم فيها حضارة على أساس الدين؟
هل ننسف تاريخا بأكمله، تاريخا يموج بأحداث كبار، وانتصارات دعوية وعلمية؟
لقد قبل المسلمون بهذه الدول كبيرها وصغيرها لأنها حافظت على الحد الأدنى المطلوب لشرعيتها، رغم وقوع الظلم وأكل الأموال بغير حق عند بعض حكامها، ورغم الاستبداد السياسي الذي أضعف هذه الدول، ولا نبرر هذه الأخطاء، بل تذكر كما هي بعد التحقيق العلمي ليعتبر من يعتبر، ولكن رغم هذه الأجواء الملبدة بالغيوم كان هناك أمراء وملوك صالحين مجاهدين أهل علم وتقوى، كان هذا في الأندلس وفي زمن دول الطوائف، وكان ذلك في الدول الكبيرة كالمرابطين والموحدين.
هناك تشويه متعمد لهذا التاريخ وذلك “بالتعميم الجائر الظالم الذي يلقي ظلا كثيفا قاتما كئيبا على العصور الأولى يدفع إلى الاستخفاف والتحقير والغلو في التهزئ بأهل هذه العصور والشك في أمورهم، ويعمي عن معرفة الحقائق”(1).
والملفت للنظر بعد الهجوم على التاريخ الإسلامي كله أن هناك تركيزا على دولة بني أمية في دمشق، وهي دولة إسلامية لها وعليها، فيها ملوك صالحون..، وفتوحات كبيرة بلغت الأندلس والصين، وفيها أمراء وقادة للجيوش، فهذا قتيبة بن مسلم الباهلي القائد المجاهد زمن الوليد بن عبد الملك يخطب في الناس ويقول لهم: إن الله قد أحلكم هذا المحل ليعز دينه، ويذب بكم عن الحرمات، ويزيد لكم المال استفاضة والعدو قمعا،.. ووطنوا أنفسكم على أقصى أثر وأمض ألم وإياي والهوان..
يقول الشيخ رشيد رضا -رحمه الله- منتقدا ومنصفا لبني أمية وبني العباس: “خرج بنو أمية بالخلافة عن حدها، وبعدوا بها عن عهدها، وانغمسوا في الترف وأسرفوا في النفقات، إلا أنهم أعطوا الملك حقه من الفتوح والتغلب والعدل في القضاء وحفظ الأمن، وكيف لنا بمثل ذلك اليوم، ولذلك كان الفقهاء يعتبرون خلافتهم شرعية، ثم دالت الدولة إلى العباسيين، فساروا سيرة حسنة إلى عهد أبناء الرشيد، وقام المأمون على علمه ينتصر للمعتزلة، وغالى بعده المعتصم في الاعتزال وظهر بعد ذلك مذهب الباطنية، واضمحلت الخلافة العباسية بما اضمحلت به الخلافة الأموية بالخروج عن العدالة وكثرة الفتن والبدع..”
نعم، هناك أخطاء وهناك ظلم واستبداد ولكن ليس بمعنى الاستبداد المتعارف عليه اليوم، لأن تطبيق الشريعة وقيام العلماء بواجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمنع الاستبداد الذي يراه الناس اليوم من بعض الحكام، وهو الذي وصف في الحديث بـ (ملك وجبريه).
والسؤال الكبير: من يقف وراء هذه الحملة الظالمة على تاريخنا وتاريخ بني أمية خاصة(2) والقول أن تاريخنا كله دماء ومؤامرات هذه الحملة التي ظهرت في هذا العصر الذي تحطمت فيه القيم الإنسانية من أين جاءتهم هذه الجرأة؟
ربما يكون بعض الكتاب لا يذكرون هذا عن تعمد، ولكن المتتبع لأخبارهم يدرك أن هناك أصابع خفية تثير هذا الشغب وهذه الشكوك، فيتلقفها بعض الناس الذين يريدون الظهور بمظهر (الناقد) وبمظهر الفهم الجديد للإسلام، فهم يمارسون تحطيما للتراث وهم لا يشعرون.
إن من حقنا أن نسأل: لماذا في هذا الوقت الذي انتفشت فيه الباطنية والشعوبية، وأصبح لها قوة إعلامية، ما دام الإعلام اليوم لا يحتاج إلا إلى المال والألسنة الحداد والصدور الممتلئة حقدا، ولا يردعهم دين ولا أخلاق ولا يمارسون أي تحقيق علمي تاريخي.
إنها جرأة من الذين يكتبون في التاريخ في هذا العصر جاءت من اعتدادهم بأنفسهم والإفراط في الثقة بفرضيات لم توضع موضع التحقيق العلمي، وخاصة عندما يتعلق الحديث عن تاريخنا الذي يختلف في بعض الأمور عن تاريخ الأمم الأخرى بسبب نشأته بالدين ومن الدين مباشرة. ومع ذلك فإنه لا يخلو تاريخ أمة أو حضارة من واجهة قاتمة لبعض السياسات الظالمة، ويبقى هناك الوجه الإنساني من نبل الرجال وبعض الأسر والحياة الاجتماعية الراقية وعطايا الخير والإحسان.
يقول المؤرخ “ول ديورانت”: “الحضارة نهر ذو ضفتين، يمتلئ النهر أحيانا بالدماء والظلم، ولكننا نجد على الضفتين في الوقت ذاته أناسا يبنون الحضارة، ولكن المؤرخين متشائمون لأنهم يتجاهلون الضفاف ويتعلقون بالنهر”..
نبش التاريخ
لا نمنع أحدا من نبش التاريخ إذا كان المقصود بيانا لحقائق أو تصحيحا لأخطاء، ولكن ليس للجرأة المتقحمة ولا للتغلغل الباطني الذي يريد إفساد حياتنا وتاريخنا حتى يكون اليأس والإحباط والنظرة الحاقدة على أجيال محمودة من التابعين ومن بعدهم.
ما هو الميزان الذي نستطيع من خلاله أن ننصف أنفسنا وننصف غيرنا في أمور معقدة من نوازع البشر واختلاف الطبائع والسجايا؟
لا يوجد إلا ميزان واحد هو الذي ذكره القرآن الكريم: “لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ”.
وهو الذي جاءت به السنة في تزكية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزكية الجيل الثاني والجيل الثالث: “خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم”، “ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى ولا يداهن في دين، ولا يأمر الناس بما يعلم أن الحق خلافه ولا ينعت أحدا بصفة إلا بما علمه ربه وبما أنبأه”(3)، )إنه الإنصاف الذي تميزت به أجيال من العلماء والمؤرخين الذين أنصفوا أعتى أعدائهم، والذين يتتبع ما كتبه الذهبي وابن كثير وأمثالهم سيرى مصداق ذلك.
ليس هذا موضع الدفاع عن أحد ولا تبرير أخطاء وقعت ولكنه موضع الكشف عن أهواء الذين ينقضون غزلهم بعد قوة أنكاثا، ويتبعون خبث الباطنية من إثارة الأحقاد والشغب على الأصحاب والعرب الذين أزالوا الإمبراطورية الفارسية، وهو ما يفسر هذا الحقد الخاص على الخليفة العظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعلى كل من اسمه (عمر) والعجيب أن الذين يشنعون على هذه الفترة من التاريخ الإسلامي (عصر الراشدين وبني أمية) هم من آثار فتوحات هذه الفترة إن كانوا ينسبون أنفسهم إلى الإسلام أو يعتزون بالإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
________________
(1) محمود محمد شاكر/ جمهرة المقالات.
(2) أما تاريخ بني أمية في الأندلس فيقول عنه الشيخ رشيد رضا: “كان خلفاء الأمويين في الأندلس خير خلفاء المسلمين بعد الراشدين وأقرب في سيرتهم إلى الشرع..”.
(3) محمود محمد شاكر / جمهرة المقالات 2/989.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *