سبتة ومليلية جذور الصراع وآفاق المستقبل لماذا تصر إسبانيا على إسبانية سبتة ومليلية؟ ولماذا يطبع الضعف والتأجيل المطالبة المغربية بهذين الثغرين؟

 على الرغم من أن العلاقات الاقتصادية بين المغرب وإسبانيا تعتبر في حالة جيدة، ويشهد عليها واقع الاستثمار الإسباني بالمغرب -بحيث أن إسبانيا تعد الشريك الاقتصادي الثاني بالنسبة للمغرب بعد فرنسا- فإن العلاقات السياسية والدبلوماسية بين البلدين لا تتناسب وحجم التبادل الاقتصادي والتجاري، وتعكس هذه العلاقات عمق الخلافات الجانبية العديدة التي تمتد في جذور التاريخ والحقبة الاستعمارية إبان النصف الأول من القرن الماضي، لكن تظل قضية سبتة ومليلية وبعض الجزر أهم القضايا الثقيلة التي تجعل العلاقات بين المغرب وإسبانيا تتأرجح دوما بين الهدوء والتوتر. وقد دلت التطورات الأخيرة -أزمة جزيرة ليلى، زيارة “خوان كالوس” لسبتة ومليلية- على أن ملف المناطق المغربية المحتلة يمكن أن يكون سببا للنزاع العسكري، ويبقى مرشحا باستمرار لإشعال حرب في هذا الجزء من المتوسط!

فما هي خلفيات وجذور هذا الصراع؟
وما هي المواقف الإسبانية والمغربية بشأن سبتة ومليلية والجزر الأخرى؟
وأخيرا، أي مستقبل للعلاقات بين البلدين؟

جذور صليبية للاحتلال
تعود بداية سقوط مدينتا سبتة ومليلية تحت نير الاحتلال الأوربي النصراني إلى تضعضع إمارة بني الأحمر في غرناطة في القرن الخامس عشر الميلادي حين بدأ الخلاف يدب بين أمراء المسلمين في الأندلس، فانتهز زعماء “قشتالة” (إسبانيا حاليا) والبرتغال الفرصة للقضاء على الوجود الإسلامي في هذه البقاع الإسلامية، فيما سمي بحروب الاسترداد، وكانت غرناطة آخر هذه القلاع التي سقطت عام 1492م. والمعروف تاريخيا أنه بعد سقوط الأندلس، أطلق “بابا الفاتيكان” يد إسبانيا في الساحل المتوسطي للمغرب، والبرتغال في الساحل الأطلسي.
وحيث سقطت سبتة في يد البرتغاليين عام 1410م، بقيت مليلية تقاوم جيوش الإسبان حتى سقطت عام 1497م، في إطار خطة عامة للإسبان والبرتغاليين لمحاصرة أقاليم الغرب الإسلامي واحتلال أراضيه، ومن تم تحويلها إلى النصرانية عملا بوصية الملكة “إزابيلا” الكاثوليكية المذهب، والتي نصت على ضرورة قيام الكاثوليك بغزو بلاد المغرب وتحويل المسلمين المغاربة إلى الدين النصراني، ورفع علم الصليب المسيحي عليه بدلا من أعلام الهلال الإسلامي، وظلت سبتة تحت الاحتلال البرتغالي إلى عام 1735م، ثم دخلت تحت الاستعمار الإسباني ولم تخرج إلى اليوم.

اتفاق مدريد السري
خلال المفاوضات التي كانت تجري بين الرباط ومدريد سنة 1975م بشأن الأقاليم الصحراوية، اشترطت إسبانيا على النظام المغربي الالتزام بشرطين أساسيين: الأول أن يسمح المغرب لأسطول الصيد الإسباني بالصيد في المياه الصحراوية المغربية المقابلة لجزر الكناري، والثاني: أن يمتنع المغرب عن طرح ملف سبتة ومليلية قبل مرور عشر سنوات على اتفاقية مدريد التي وقعت عام 1976م.
وقد ظلت هذه البنود السرية في الاتفاق تمنع المغرب من طرح موضوع حقوقه السيادية في المدينتين المحتلتين، لكنها في المقابل أطلقت يد إسبانيا لتسريع وتيرة “الأسبنة” في المدينتين خلال تلك العشرية المذكورة، ووصلت ذروتها عام 1985م حين منحت إسبانيا المدينتين وضعية “المدن المستقلة”.
وقد وضع حزب الاتحاد الاشتراكي الإسباني الحاكم خلال فترة الثمانينيات في عهد “فيليب جونثاليت” مخططا سريا لتغيير الأوضاع في المدينتين لصالح الحكومة الإسبانية، استعدادا لانتهاء مدة اتفاقية مدريد في عام 1986م، وشمل هذا المخطط عرقلة امتلاك المغاربة للممتلكات العقارية في المدينتين، والطرد الممنهج لهم وإبعادهم إلى المغرب، حيث أقدمت في عام 1983م مثلا على طرد 1500 مغربي، ومنع دخولهم من جديد. وفي أكتوبر 1985م بدأت إسبانيا في تطبيق قانون الأجانب المقيمين بالمدينتين، والذي يعتبر المغاربة هناك أجانب فوق الأراضي الإسبانية، وعلق أحد الكتاب الإسبان على هذا القانون قائلا: “لقد وضعت إسبانيا مغاربة المدينتين في موقف حرج للغاية، إما أن يقبلوا أن يصبحوا أجانب على أرضهم المغتصبة، أو يتم ترحيلهم وراء الحدود”، وأدى ذلك إلى انتفاضات للمغاربة المسلمين خلفت سقوط قتلى في صفوفهم في يناير 1987م.

سبتة ومليلية في الإستراتيجية الأطلسية
منذ دخول إسبانيا حظيرة الإتحاد الأوربي في النصف الثاني من الثمانينيات تغير الدور الذي تحتله المدينتان في الفكر الإستراتيجي والعسكري الإسباني، حيث أصبحتا تمثلان لها تهديدا محتملا وبرميل بارود على جبهتها الجنوبية. وقد قوى اندماج إسبانيا في الإتحاد الأوربي من نزعة “الموروفوبيا” أي التخوف من مسلمي المدينتين والمغرب بشكل خاص. ومع الترتيبات الجديدة التي أدخلها البيت الأوربي في مطلع التسعينيات وتوقيع اتفاقية “شينجن” المتعلقة بالحدود بين الدول الأوربية تحولت المدينتان إلى عنصر في العقيدة الأمنية الأوربية تجاه منطقة الجنوب، إذ نصت معاهدة “شينجن” صراحة أن المدينتين هما الحدود الجنوبية لأوربا.
وقد خولت هذه الترتيبات الجديدة في الإتحاد الأوربي والبحث الحثيث عن عقيدة عسكرية جديدة مشتركة لحلف شمال الأطلسي، خولت لإسبانيا المزيد من الذرائع لتقوية احتلالها للمدينتين وإعطائه الشرعية الأوربية، إذ أخذت تلوح بالتهديد الإسلامي القادم من الجنوب، وبمركزها الجغرافي الإستراتيجي كمعبر مفتوح نحو الأراضي الأوربية، وأخطار الهجرة القادمة من جنوب المتوسط، وذلك لتحقيق هدفين:
الأول: هو تلقي الدعم الأوربي العسكري والمالي.
والثاني: فرض الأمر الواقع على سكان المدينتين، وأخذ التأييد الأوروبي والأطلسي لاحتلالها لهما.
ووجدت إسبانيا بذلك المجال متاحا أمامها لإضافة جدار مادي يفصل المدينتين عن الوطن الأصلي الشرعي لهما، أي المغرب، بعد الجدار النفسي والوجداني الذي أقامته طوال المراحل السابقة، حيث أقامت سياجا فولاذيا كحدود بين المغرب واسبانيا، وقد علق أحد مسئولي حزب اليسار الموحد الإسباني في مدينة سبتة على عملية التسييج قائلا: (إن مدريد وبروكسيل -إشارة إلى الاتحاد الأوربي- تفرضان علينا القيام بدور لا نبتغيه لأنفسنا دور “كلاب حراسة”). وفي قمة واشنطن لحلف شمال الأطلسي التي عقدت بمناسبة الذكرى الخمسين لإنشائه قبل ثلاث سنوات، والتي تم فيها تحديد المفهوم الجديد للأمن بالنسبة لدول الحلف في القرن الحادي والعشرين، تضمنت المنظومة الجديدة للحلف مهمة الدفاع عن سبتة ومليلية في حال وقوع نزاع بين إسبانيا ودول المغرب العربي، وكتبت صحيفة “لاراثون” الإسبانية في شهر مايو 1999م تقول: “إن أي هجوم على المدينتين سيجبر الجيش الإسباني على التدخل فورا بأمر دستوري، وستحظى حكومة مدريد ابتداء من الآن بالمساعدة المستعجلة من طرف قوات الحلفاء في الأطلسي”.
ومنذ بداية التسعينيات أصبحت نقطة الحدود المسماة “باب سبتة” بين سبتة والمغرب هي الحد الجغرافي للإتحاد الأوربي، وعلقت على مدخل المدينة لوحة معدنية كبيرة مكتوب عليها: “أهلا بكم في الإتحاد الأوربي”. وكانت صحيفة “الموندو” الإسبانية قد نشرت مطلع 1998م مضمون وثيقة سرية لحلف الأطلسي تبرز تحويل مدينتي سبتة ومليلية إلى قاعدتين للتدخل في المغرب وشمال إفريقيا، وذلك في إطار المخطط الأمني الإستراتيجي الجديد للحلف المتعلق بحق التدخل في أي بقعة جغرافية في العالم تهدد مصالح دوله.

سبتة ومليلية التهديد الإسباني
ومن الواضح أن واقع الاحتلال الإسباني للمدينتين المغربيتين ليس إلا جزءا من أطماع استعمارية واسعة تحكم سياسة مدريد تجاه المغرب، جارتها الجنوبية، فمن المعروف أن الجنرال “فرانكو” قال خلال أيامه الأخيرة عام 1975م في أوج النزاع حول قضية الصحراء: “لتضع إسبانيا جيرانها في اليد”. فالنزعة الاستعمارية التسلطية نحو الجنوب لم تغادر أجندة أوروبا بعد، والتي ما زالت تحلم بجنوب راضخ وكسيح، وما قضية الصيد البحري واستغلال الثروة السمكية المغربية في حوض المتوسط إلا دليلا واحدا عليها، وقد قال أحد البرلمانيين الإسبان بشأن قضية الصيد: “إن المغرب اختار توقيف العمل مع إسبانيا باتفاقية الصيد البحري ومعنى ذلك أنه اختار أن يعرض شعبها للجوع، إنها الحرب وعلينا أن نعمل بالمثل مع المغرب”.
وعندما فشلت المفاوضات بين الرباط ومدريد في يناير 2000م بشأن موضوع إعادة تجديد اتفاقية الصيد، وجه رئيس الوزراء الإسباني “خوسي ماريا أزنار” تهديدا مباشرا إلى المغرب، قال فيه: “إن فشل المفاوضات ستكون له عواقب سلبية”، دون الإفصاح عن طبيعة هذه العواقب، وبعد بضعة أشهر تحركت السياسة الإسبانية المعادية للمغرب.
ويعتبر الدعم الذي تقدمه اسبانيا لجبهة البوليساريو، محاولة من مدريد لإشغال المغرب عن المطالبة بحقوقه الشرعية في سبتة ومليلية، وتمكنها من تحضير الشروط الكفيلة بحسم ملف المدينتين حسب رغبتها في حال إذا ما اضطرت إلى ذلك يوما ما.
وأمام التعنت الإسباني، وإصرار المغرب على استعادة المدينتين واستكمال وحدته الترابية، تظل جميع الاحتمالات واردة، بما فيها النزاع العسكري، وبين هذه الاحتمالات، تبقى قضية سبتة ومليلية شاهدة على الماضي الصليبي في المتوسط.

عن موقع عرب الأندلس بتصرف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *