في 27/9/1911م أرسلت إيطاليا إنذارًا إلى حكومة الباب العالي بالآستانة إلى السلطان العثماني، جاء في هذا الإنذار بالحرف الواحد: “نظرًا لإهمالكم شؤون القطر الليبي؛ فإن الدولة الإيطالية تريد أن تفتح أبواب هذه البلاد للمدنية الغربية.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإننا نريد المحافظة على مصالح الإيطاليين في (ليبيا)، وإنقاذهم من الخطر المحيق بأرواحهم بسبب التحريض العام عليهم بدافع من التعصب الديني، الذي يظهره الموظفون الأتراك وضباطهم نحوهم. كما أن الأسلحة التي أرسلتها دار الخلافة والتعزيزات العسكرية التي قامت بها تزيد في قلقنا” اهـ بنصه.
كان هذا في الواقع إعلانًا للحرب، وليس مجرد إنذار أو تهديد، فلم يمضِ أكثر من يومين حتى كانت الجيوش والأساطيل الإيطالية تدك الشواطئ الليبية بمدافعها الثقيلة، محاولة احتلال (طرابلس)، وقبل ذلك بسنين كان قد تم إعداد الأرض وتهيئتها وحرثها لإمكان غزوها.
كان الاستعمار الغربي قد وعى الدرس جيدًا حينما خرج (نابليون) فتى فرنسا المبير، وسفاحُها الجبَّار، خرج (نابليون) من مصر بليل، وتبعه جيشه مذمومًا مدحورًا، ولكنهم كانوا قد تعلموا درسًا غاليًا، عبَّر عنه كبار جنرالات (نابليون) في تقرير لهم عند مغادرة مصر: “إننا جئنا إلى مصر قبل الأوان”. ولذلك احتاج إعدادها وتمهيدها للاحتلال الذي جاءها سنة 1882م، احتاج هذا الإعداد أكثر من 75 سنة، ( ولهذا حديث آخر).
كانت إيطاليا قد وعت الدرس جيدًا، فلم تتعجل في التهام حصتها من الفريسة، وإنما أخذت تمهد لشلِّ حركة الفريسة قبل الانقضاض عليها، فبدأت في فتح المدارس الإيطالية، وإنشاء البنوك، وشراء الأراضي، وإقامة المباني، وتكوين الشركات (للاستثمار والإعمار)، وفتح المتاجر لترويج المصنوعات الغربية، ووسائل الزينة والترف والرفاهية، لاعتصار أموال الشعب، وصاحب ذلك البعثات (التنصيرية)، بوسائلها المعهودة (التطبيب، والتعليم، والإغاثة، والأعمال الخيرية)، مع التودد والتلطف، وكسب الأصدقاء، وتعويدهم نمط الحياة الغربية.
وكان قمة الإعداد وذروته أن صار للطليان عملاء في بلاط الخليفة، بل إن الصدر الأعظم نفسه كان سفيرًا سابقًا في إيطاليا، وتم الالتفاف حوله، وتزويجه بإيطالية، ولكن الذي هيأ لهذه المكائد النجاح هو أن دار الخلافة كانت قد سقطت في جماعة (الاتحاد والترقي)، الذين هم في الواقع طلائع كمال أتاتورك، فكان تهاونهم في أمر الغزو الإيطالي يشبه الخيانة المتعمدة.
البابا يبارك جيش الغزو
وكان أبشع ما حرك المشاعر، وأهاج الخواطر، أن الدنيا شهدت (بابا الفاتيكان) بلباسه الكهنوتي وشاراته، يقف في خشوع وإجلال أمام الجيش الإيطالي يمنحه بركاته، (مصليا من أجله) داعيًا (أن يمنحه الرب التوفيق في مهمته)، ثم (قبَّل البابا الصليب)، ووضعه على جبهة القائد، وقبَّل الصليب ثانيةً وطاف به حول رأسه، ثم قبَّل الصليب ثالثة وأشار به نحو الجند، ثم انحنى في خشوع انحناءةً خفيفة، تحيةً للجيش، وتألقت في عينه دمعة مقدسة، فعلت في نفس الجيش فعل السحر.
واندفع الجيش (المبارك) (المقدس) وفي قلبه من نار الحقد أضعاف ما في يده من نار السلاح، وكان النشيد الذي يردده الجنود (ولعله كان تلقائيًا لم يُعدَّ من قبل) كان هذا النشيد يقول:
“أماه لا تقلقي..
أماه لا تحزني..
أنا ذاهب إلى طرابلس..
فرحًا مسرورًا..
لأبذل دمي..
في سبيل سحق الأمة الملعونة!!
ولأُحارب الديانة الإسلامية!!!
سأقاتل بكل قوتي لمحو القرآن!!
صمد الليبيون أو بالأحرى صمد المسلمون أمام هذا الإعصار الصليبي الجائح، صمدوا صمود الأبطال، فعلى الرغم من أن قوة (طرابلس) لم تزد عن (5000) خمسة آلاف، وقوة بني غازي عن (2000) ألفين، على حين كانت القوات الإيطالية الصليبية، تتكون من (34000) أربعة وثلاثين ألفًا من المشاة، (6300) ستة آلاف وثلاثمائة من الفرسان المزودين بالأسلحة الثقيلة، على الرغم من ذلك، فقد دفعت إيطاليا ثمنًا باهظًا قبل أن تستقر قدمُها على ضواحي طرابلس، فقد أُنزل على الشاطئ 1200 جندي إيطالي من مشاة البحرية، سقط منهم (600) ستمائة صرعى في أول جولة من جولات المعركة، ودارت رحى الحرب، فطحنت في معاركها ما بلغ (20000) عشرين ألفًا من الجيش الغازي (بين قتيل وجريح ومفقود ومريض)، وعلى الطريقة الوحشية الصليبية -التي عرفناها منهم في بيت المقدس- بدأ الانتقام من المدنيين، فقُتل نحو ثلاثة آلاف تحت التعذيب، وأحرقت بيوتٌ وهُدِّمت على عائلات بأسرها، وذُبح من الأطفال والنساء وكلُّ من ساقه حظه إلى طريق الجنود المتحضرين، وشنق حوالي ألف رجل. حتى بلغ القتلى من المسلمين نحو (15000) خمسة عشر ألفًا. (هذا ما ذكرته الصحف الغربية الصادرة في 28 شتنبر سنة 1912؛ أي بعد الغزو بعامٍ واحد).
ولا تعليق، ولكن فقط تأمل في كلمات الإنذار الإيطالي وفي موقف البابا؛ تجد أن الداء قديم قديم، وأن الذرائع هي هي:
1- ضرورة فتح الباب للمدنية الغربية (يعني نشر الديمقراطية، وتحرير الشعب).
2- التحذير من التحريض (تجديد الخطاب الديني).
3- الخوف من الأسلحة والتعزيزات التي أرسلتها تركيا (امتلاك أسلحة..).
4- موقف البابا (كلام برلسكوني ورئيس وزراء إيطاليا، وكلام وليام بوكين وكيل وزارة الحربية الأمريكية).
وقد سجل الشعر العربي في قصائد مطوَّلة هذه الأحداث، فكان مما قاله الشاعر محمد عبد المطلب:
إذا وقف البابا يبارك جندكم *** فما كل بابا للمسيح مقربُ
سلوه أَفِي الإنْجيل للحرب آية *** إذا كان في إنجيله ليس يكذب
وقال حافظ إبراهيم:
بارك المطران في أعمالهم *** فسلوه: بارك القوم علاما؟
أبهذا جاءهم إنجيلهم *** آمرًا يلقي على الأرض سلامًا؟