بعدما استعرضنا في الحلقة السابقة قيام قوات الغزو الفرنسية بفتح الطريق بين الرباط وفاس، وإنشاء مراكز عسكرية للمراقبة على طولها لمنع استعادة المقاومين السيطرة عليها، وما خلف ذلك من ردود أفعال، منها قيام إسبانيا باحتلال العرائش والقصر الكبير، وقصف ميناء أكادير من طرف ألمانيا، مما جعل قائد القوات الفرنسية الغازية يأمر قواته بالتوقف عن الحركة للمزيد من الاحتلال، مما اعتبر تأثيرا كبيرا على عمليات التهدئة، ونشر مزيد من البوليس حسب المنظور الفرنسي الذي كان يسوق الغزو على أنه «عملية نشر للأمن» (بيير كورات «En Colonne au Maroc» p.261 1912).
وهكذا لم يلتزم الكولونيل «برانلي» مسؤول قطاع الشاوية بقرار القائد العام لقوات الاحتلال «موانيي»، فاتخذ قرارا بالتقدم لمعاقبة القبائل المشتبه في قتلها الضابطين «مارشاند» و«هيفرت»، فقام بالتمركز في معسكر «بالحوت» بعدما اجتاز واد الشراط وواد اكريفلة، حيث خاض عدة معارك مع المقاومين للغزو.
وفي يومي 11 و12 يوليوز، استولى مقاومو «ازعير» على «قصبة مغشوش» التي كان بها مركز حراسة واستطلاع، ويوم 14 منه، دارت معركة قاسية في «عين الصباب» يوم 12 يوليوز 1911، عندما أرادت القوات التحرك من مركز «الزوينة» في منعرجات اكريفلة على بعد أربعة كلومترات من موقع المعركة التي دامت طيلة النهار وجزء من الليل عندما عاد المقاومون لأخذ قتلاهم (أنظر «في بلاد البارود» للقبطان «سيصالدي» 1914 ص.63) حيث أشار إلى فقد 99 قتيلا وجرح 200.
يقول هذا القبطان بأن كره الرومي لم يسمح بتصور وقت يمكن أن يوضع حد للهجمات الدموية في وقت معين (ص.109، مصدر سابق)، ويضيف: «بني حكيم» و«ازعير» كلهم نهاب مخيفون يستولون على كل ما تطاله أيديهم، قريبون من هنا يقيمون حذو الجبال في الجنوب والغرب على ضفاف واد تينوبر وبوركراك، حيث تختلط مياههما السريعة الجريان على ضفاف تلتقي بها عدة طرق تؤدي إلى بلاد «ازعير» و«زيان» حيث يصعب علينا ضم تلك القبائل المقاتلة المقيمة في تلك البلاد الوعرة، والتي تذكرنا مرتفعاتها بأننا نقف وجها لوجه مع الأعداء في مراكز متقدمة للحراسة والرصد.
ذلك أنه على بعد 28 كلم جنوب مركز تيفلت هناك «لمعازيز» على صلة في الغرب والجنوب مع «زمور» الخارجين و«ازعير» من جهة أخرى، نحن لا نعتمد إلا على أنفسنا، الخطر يتهددنا من جانبي النهرين والروابي المحيطة بالسهل، فكلما رأينا الناس يجمعون خيامهم المجاورة للمركز تضاعف إحساسنا بالخطر في «زمور» (ص.109).
«بني حكيم» في الجنوب، و«ازعير» في الغرب، كلهم هنا مختفون لا يقوون على مراقبة تحركاتنا، ولكن يجب مع ذلك فتح أعيننا وتوقع تواتر ردود الفعل، لكن هذه ليست بحياة.
إثرها أمر «موانيي» «برانلي» بالتوقف عن التحرك، فعاد إلى الدار البيضاء يوم 5 غشت بعدما ترك خلفه مركز حراسة واستطلاع في «عين جبوجة» التي أطلق عليه معسكر «مارشاند».
لقد أدت المفاوضات الفرنسية الألمانية إلى التأثير على تحرك القوات الفرنسية، والزيادة من هجمات المقاومة، وعرقلة إتمام ربط العاصمة بالبحر (ص.262).
لكن بالرغم من تلك العراقيل واصلت قوات الغزو التحرك ففي 10 غشت، قاد الجنرال «ديت» القوات التي ذهبت لتبديد مخاوف الأوربيين المتواجدين في المراكز بين الرباط ومكناس، وخاض في الطريق معركة بـ«ضاية الرومي» يوم 13 منه، ثم توجه إلى مركز «مارشاند» الذي وصله يوم 19 بعدما خاض معركة ضارية في «كلتة الفيلا»، وبذلك فتح الطريق بين الشاوية ومكناس عبر الرباط («مع الكولون بالمغرب» ص.262).
بعث وتجديد المغرب في رأي «بيير كورات»
بعث وتجديد المغرب سيشيد على السلم الداخلي، ولن يتحقق ذلك قبل أن يكون هناك جيش أهلي كبير منضبط وحاصل على أجوره، ومتوفر على شبكة من الثكنات داخل البلاد لعدد من الأفراد ما بين 5000 و30000 رجل، وسواء كان السلطان مستقلا أو محميا من طرف فرنسا فإن عليه تقليص وتخفيض عداء القبائل المحيطة بفاس وخضوعها، أو إتلاف المعادين وحصرهم بطريقة نظرية بقعة الزيت، كما فعلنا في مدغشقر وطانكين.
نزع السلاح التدريجي للقبائل سيؤدي بالضرورة إلى الهدوء العام (ص.188)؛ مضيفا بأنه كيفما كانت القوات الفرنسية بالغرب، ودورها في احتمال التهدئة، فإن عملها سيكون دائما سابقا ومكملا من طرف الأهالي المؤطرين ذاتيا، وإذا ما تم تأهيل المحلة الشريفة كما هو متوقع من طرف «منجان»، وإبعاد المعارضين لسياستنا بين جنودها وضباطها وتنظيم القناصة المغاربة على غرار القناصة السنيغاليين، حيث أعطت تجربة كوم الشاوية نتائج حسنة مثل بوليس الموانئ (ص.189).
يقول «كورات»: لقد أعطينا الكوم دورا أساسيا، وسنرفع عددهم بحيث سيصبح لكل فرقة، مكونة من 100 فارس، رئيس واحد، و300 من المشاة مؤطرين من طرف ضباط وضباط صف فرنسيين، وهم في أغلب الحالات قوة قادرة لوحدها على خوض عمليات الإغارة لتشتيت اجتماع القبائل المهددة لنا؛ فرسانهم سيعملون على توسيع محيط العمليات لدعم عناصر القوات، في حين أن المشاة يتعاملون مع المقاومة المحلية بنجاعة فائقة، مانعين الثورة في كثير من الجهات من أن تتوسع وتتحد.
بيد أن تجمعهم في مهمة مؤقتة يطرح ضررا يتمثل في أن تحركهم بكثرة يجعل مقاومتهم ممكنة لسوء تنظيمهم، لذلك لا يجب الإسراع بتحويلهم إلى «قوة قناصة مغاربة» مع تقييدات التراتبيات الإدارية، كما يجب اختيار مدربيهم من الجزائريين لتلاؤم العقليتين.
كما يجب تقسيم المغرب إلى نواحي لحكمه وتهدئته، مثل الرباط، وفاس، وتازة، وسوس، وأعالي ملوية، ووزان، وتافيلالت؛ فإذا كانت هناك اتحاديات معادية فإنها لن تقوى على جمع أكثر من 2000 مقاتل، وعلينا مقابلتهم بحوالي 20000 من الكوم المغاربة، ويقسم الكوم إلى مجموعات في كل جهة تحت قيادة موحدة تنسق كل العمليات في الناحية، إلى أن تتم التهدئة نهائيا في تكامل بين السلطة المدنية والعسكرية داخل الناحية والدائرة؛ لكن أن نفوض لـ20000 من الكوم مستقبل عملنا في المغرب فنحن أمام نهضة مهمة كيفما كانت ممكنة من الوطنيين المغاربة، والمفاجآت في «الحرب المقدسة»، وعواقب ظهور عام للإسلاميين ضد الرومي؛ يجب ضمان ولاء قواتنا المغربية المستقبلية وبتخوفنا من مخاطر أن يغتصب المغاربة الذين سنسلحهم السلطة منا إذ ذاك سنواجه في حالة الاستنفار قوات مدربة يرتاب في ولائها، لذلك يجب أن يكون تفقد الثكنات الأوربية متناسبا مع أخطار الثورة العامة، أو ردة وعودة ثورة الأهالي المجهولة بشكل كبير في بلاد صعبة تفتقر إلى طرق الاتصالات (ص.273).