رواية أبي هريرة رضي الله عنه.. القيمة التاريخية التي يجهلها الكثير من الناس محمد زاوي

تكلّم كثيرون في الصحابي أبي هريرة رضي الله عنه، فتوزعوا بين مقدّر لقيمته، وبين مهوّن من قدره بل وطاعن في سيرته. أقر بعبقريته في الحفظ المحدثون وجمهور علماء الأمة، ونالت منه طائفة حتى اتهمته بالكذب على رسول الله ﷺ. وقد ظلمته هذه الطائفة الأخيرة بأن تجنت على مكانته كصحابي، وبإغفالها لعبقريته السياسية في شرط تاريخي خاص.

تفرض علينا هذه المناقشة، تقسيم المقالة إلى ثلاثة محاور:

1-من سيرة أبي هريرة رضي الله عنه

يتحجج بعضهم بأنه لا يعرف أبا هريرة رضي الله عنه، وكيف سيعرفه من لم يفتح كتاب حديثٍ في يوم من الأيام؟! كيف سيعرفه من لا يعتبر كتب الحديث مصدرا من مصادر التاريخ؟! يتحججون بأنهم لا يعرفون في اسمه إلا الكنية، ونسوا أو لعلهم جهلوا أن الكنى كانت تغني كثيرا عن أسماء أصحابها لدى العرب، بل ونسوا أن في اسمه ورودا وترجيحا.

ولِد أبو هريرة رضي الله عنه في دوس (قبيلة يمانية)، وفيها ترعرع وعاش فقيرا. فلما بلغ الثلاثين، هاجر إلى المدينة، لمبايعة رسول الله ﷺ، في السنة السابعة للهجرة. وفي المدينة، التحق بأهل الصفة، وخدم بعض الصحابة رضي الله عنه لسد رمقه، ورافق النبي ﷺ لأجل نفس الغاية، وليس في ذلك عيب لفقير ليس من أهل البلج كأبي هريرة رضي الله عنه.

وأما علاقته بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، زمن خلافته، فقد وقع فيها الكثير من الأخذ والرد، والطعن بغير علم. والحقيقة، أن في ثناء عمر رضي الله عنه على حديث أبي هريرة رضي الله عنه روايات لا يذكرها الطاعنون، وفي عزله (عمر) له (أبو هريرة) لمسائل مالية تأوّل تقتضيه هذه المسائل، وحاجة إلى التدقيق يطلبها التاريخ.

وأما علاقته ببني أمية، فهو ما سيأتي بيانه أسفله.

2-عبقريته في النقل عن رسول الله رضي الله عنه

يتحججون بأن أبا هريرة رضي الله عنه مكثرٌ “كمية”، وموجَّه “كيفية” (1). فأما إكثاره في كمية الرواية، فهو ما سنتطرق له في هذا المحور. وأما كونه موجَّها في مضمون الرواية، فهو ما سنؤجله للمحور الذي يليه.

قال محمد بن إدريس الشافعي: “أحفظ من روى الحديث في عهده”.

وقال بقي بن مخلد الأندلسي: “روى أبو هريرة 5347 حديثا، اتفق البخاري ومسلم على 609 حديث منها، وليس لأحد هذا العدد ولا ما يقاربه”.

وقال البخاري: “روى عنه أكثر من 800 رجل بين صاحب وتابع”. (2)

وقال فيه الإمام الذهبي في “سير أعلام النبلاء”: “الإمام الفقيه المجتهد الحافظ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو هريرة الدوسي اليماني، سيد الحفاظ الأثبات”. (3)

ورغم ذلك يتحججون بأن أبا هريرة رضي الله عنه أكثر في الرواية، وهو نفسه يجيبهم: “إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني كنت ألزمه بشبع بطني حتى لا آكل الخمير ولا ألبس الحبير ولا يخدمني فلان أو فلانة وكنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع”. (4)

وليست عبقريته مقتصرة على الحفظ وحده، وإنما عليه وعلى قوة الاستحضار، وفي المواقف التي تطلب هذا الاستحضار عينه. ومن ذلك كانت عبقريته السياسية، في شرط تأسيس الدولة الأموية.

3-عبقريته السياسية في دولة بني أمية

نتحيز للإجماع على صحبة أبي هريرة رضي الله عنه وعدالته، لسببين: أولهما متعلق باستحضارنا ل”التقريب والتغليب” في المسألة، دون نسف لا مسؤول ولا تاريخي لمنظومة بأكملها؛ وثانيهما متعلق برغبتنا في التأسيس للوعي بالدولة والتاريخ من بين ثنايا هذا التراث الزاخر، ومن خلال قراءته على ضوء التاريخ الملموس للدولة العربية الإسلامية.

شرط الأمويين هو “التناقض الجديد المتولد عن توسع الفتوحات العربية. هذا التناقض الذي عبر عن نفسه في شكل حرب أهلية بين أنصار علي وأنصار معاوية، استقطبه من جهة نزوع إلى المحافظة على التركيب الاجتماعي للقبيلة الذي بدأ يتفكك ويتحطم (تيار علي)، ومن جهة أخرى، مسايرة ضرورات التقدم في بناء دولة مركزية تعبر عن الوضع الاجتماعي الجديد (معاوية)”. (5)

وكل هذا داخل في إطار ما يسميه امحمد طلابي ب”الحاضنة التاريخية” التي تطلب “فعلا تاريخيا مخصِّبا”، لإنتاج “خصوبة تاريخية”. ف”الحاضنة التاريخية”، هنا، هي شرط توسع الفتوحات العربية الإسلامية. و”الفعل التاريخي المخصب” كان هو “المشروع الأموي”، الذي أحسن الفعل في شرطه التاريخي، فقويت بذلك الدولة العربية الإسلامية وتوسعت، وتلك هي “الخصوبة التاريخية”.

لم يكن أبو هريرة رضي الله عنه هو الكل في الكل في هذا الفعل التاريخي المخصّب للأمويين، ولكنه شكل، بلا منازع، أحد أعمدتهم الخطابية والإيديولوجية، في زمن كانت فيه للمحدث سلطة يستمدها من “قول رسول الله ﷺ وفعله وتقريره”. وليس بالضرورة أن يضع أبو هريرة رضي الله عنه على رسول الله ﷺ ليتم له ذلك، وإنما هو الاستحضار في سياقات بعينها لا يخلو من معنى، وهو التأوّل في حديث رسول الله ﷺ على ضوء واقع جديد.

هوامش:

(1): ع. الحسين شرف الدين، أبو هريرة، الملتقى، الطبعة الرابعة، 1999.

(2): سعيد الكملي، شرح الموطأ، الدرس 9.

(3): شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج 2.

(4): رواه البخاري.

(5): عبد السلام الموذن، دراسة بعنوان “النبي محمد والدولة القومية”.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *