عناية المسلمين بالبلاغة خدمةً للقرآن الكريم أ.د. أحمد الخراط

علم البلاغة غصن باسق من دوحة علوم العربية، وقد لقي هذا العلم من عناية السلف وجهودهم ما جعله عِلْماً قائماً بذاته؛ ليخدم بيان الوحي المعجز، وتفوُّقه على الأساليب البيانية الأخرى.
ويشير واقع العرب في أوائل عصر نزول القرآن الكريم إلى أن السليقة التي نشؤوا عليها في التذوق الفطري الأصيل وَفَّرَتْ عليهم تحليل مقومات روعة الكتاب العزيز، ثم إنهم لم تكن لديهم الوسائل التي تكفي لبلوغ هذا التحليل، على نحو ما تيسَّر للأجيال التالية.
ومع مرور الأيام برزت عوامل جديدة أدَّت إلى إضعاف أثر السليقة في التعامل مع النصوص الأدبية؛ فقد اختلط العرب الفصحاء بغيرهم، ووصلَتْ دعوة الإسلام إلى أقوام مختلفين، كما أثيرت شكوك ومطاعن في بلاغة القرآن وإعجازه، ممَّا جعل الكثيرين لا يكتفون بهذا التفوُّق الذي تُحِسُّه نفوسهم إزاء البيان القرآني، فمضَوا يحاولون استنباط ما يستطيعون استنباطه من وجوه البلاغة فيه، وأصبحت دراستُهم تقوم على الدليل العقلي والحجة وتسويغ مواطن الجمال التعبيري.
ويُعَدُّ القرآن الكريم العامل الرئيس الذي ساعد على الشروع في الدراسات البلاغية بمختلِف اتجاهاتها، وكان هذا العامل أهمَّ البواعث في إثارة الهمم للبحث الجادِّ عن ترتيب وجوه الكلام، والتمييز بين الأساليب ومعرفة الجوانب الجمالية في نسيج تركيب الجملة العربية.
ويُجْمع العلماء على أنه بفضل الكتاب العزيز نشأت علوم البلاغة التي أمدَّها النص القرآني بفيض من الأمثلة البديعة في محاسن الكلام وبديع النظم.
وقد عرَفَ العرب بسليقتهم اللغوية أن عجزهم عن الإتيان بمثل القرآن نابع من بلاغته القوية وبيانه المعجز؛ وما يتميَّز به من خصائص أسلوبية وبيانية، ولكن مع التأثُّر الجارف بالفلسفات الوافدة ذهب بعض المسلمين إلى ما عُرِفَ بنظرية الصِّرْفة، والتي مفادها أن العرب قادرون على الإتيان بمثل بلاغة القرآن وبيانه، ولكنهم صرفوا عنه ضربا من الصرف.
وذهب إبراهيم النظَّام المعتزلي هذا المذهب، فكان يعتقد أن القرآن ليس في درجة من البلاغة والفصاحة تمنع من الإتيان بمثله، فبلاغته لا تزيد على بلاغة سائر الناس، وهو من جنس كلام البشر. ومثل هذا الرأي دفع علماء المسلمين إلى الخوض في مسائل البلاغة التي تدرس خصائص النص القرآني، ممَّا سيكون له أثر كبير في إغناء المباحث البلاغية، فقد أثمرت أهمَّ نظرية في تراثنا البلاغي وهي نظرية النظم، ومن هنا كان الردُّ على النظَّام ونظريته في الصِّرْفة باعثاً مهماً ومنطلقاً لعلماء البلاغة أن يُثْبِتوا تَفَوُّق الأسلوب القرآني على الأساليب البشرية وتميُّزه بصنوف البيان البديع، وهذا الدافع جعلهم يَبُثُّون بذور علم البلاغة وفروعها المختلفة، مما كان أساساً لاكتمال صورتها في مصنفات القرون التالية.
وإذا كان الدافع للاهتمام ببيان القرآن في أول الأمر هو الدفاع عن الكتاب العزيز أمام نزعات الشك وردِّ المطاعن، فإنَّ دراسات جادَّة شرعت في بناء منظومة واسعة، غرضها شرح أوجه إعجاز القرآن ودراسة أسلوبه.
وهذه الدراسات زَوَّدت مسيرة علم البلاغة بفيض من الأصول والأمثلة التي اعتمدَتْها مصنفات علوم البلاغة فيما بعد القرون الأولى، وكان اختلاف وجهات النظر في مواطن إعجازه مادةً ثرَّة، رفدت هذه العلوم بروافد تأصيلية في البحث البلاغي والنقد الأدبي، وبذلك يتبيَّن لنا أن أهمَّ جانب ساعد على ظهور التفكير البلاغي هو الجانب المتصل بإعجاز القرآن، كما يتبيَّن لنا أن اتساع الدراسات البلاغية وازدهارها إنما كان لخدمة القرآن الكريم.
وتفرع على النظر في أسلوب القرآن واتخاذه المقياسَ البلاغي الأمثل النظرُ في الأساليب الأدبية نثرها وشعرها، والموازنة فيما بينها. وكان أبو عبيدة معمر بن المثنى مِن أوائل مَنْ أَلَّفَ فيها بكتاب سماه “المجاز”، وكان غرضه توضيح الأساليب القرآنية.
ولم تقتصر علاقة القرآن بمنهج البحث البلاغي على الدفاع عنه والتماس وجه إعجازه، بل إن ثمة علاقةً أخرى، وهي الضرورة التي يُحِسُّها المسلم من جهة فَهْم معانيه، ولا يتمُّ هذا الفهم إلا بالإحاطة بأساليبه، وما يمكن أن ينطويَ وراء تعبيراته من المعاني والمقاصد، على قَدْر طاقة المشتغلين فيه. ومن هنا جال علماء البيان بضروب الأسلوب القرآني، وكان هذا من الحوافز التي وجَّهَتْ أنظارهم إلى الفنون المختلفة للتعبير الفني في الشعر والنثر، فوضعوا مصنفات كثيرة في هذه الحقول، وكانت هذه المصنفات صدىً لبيان خصائص النظم القرآني.
وكان من جملة أغراض البحث البلاغي عندهم إثبات أنَّ ما عُرِف في أدب العرب من فنون جمالية عالية في التعبير، وقع مثلُه في القرآن على صورة أجملَ وآنَق وأرقى، وقد فَتَحت المصنفات التي تركوها باب البحث البلاغي على مِصْراعَيْه، ووصلَتْ بالذوق البياني إلى كثير من الأصول التي تأسَّسَتْ عليها علوم المعاني والبيان والبديع.
يقول الدكتور بدوي طبانة: «من النادر أن نجد أثراً من الآثار التي عرضت للبيان العربي خَلاَ من الإشارة إلى القرآن ونظمه، وهذا يؤكِّد بُعْدَ أثر الدراسات القرآنية في نُمُوِّ الدراسات البيانية وتنوُّعها، وعدم انقطاع هذا التأثر في سائر العصور».
وعندما ازدهر التصنيف في علوم البلاغة كانت خدمة القرآن الكريم ماثلةً أمام العلماء الذين كانوا يَعُدُّون جهودهم مُنْصَبَّةً في هذا المجال، حتى إننا لا نكاد نجد كتاباً في البلاغة مقصوراً على مباحثها النظرية، وبعيداً عن خدمة القرآن، فعبد الله بن المعتز مثلاً عندما شرع في البحث عن صنوف “البديع” وفنونه أشار إلى كثير من آيات القرآن، وكان يجعل الشاهد القرآني في مقدمة شواهده، وحين تكلَّم على ما سَمَّاه الجاحظ المذهب الكلامي قال: “وهذا بابٌ ما أعلم أني وجدت في القرآن منه شيئاً، وهو يُنْسَبُ إلى التكلُّف”.
وتُرْجِعُ معظم كتب البلاغة سبب تأليفها إلى إطْلاع الناس على مواطن أسرار البيان في القرآن، فالرمَّاني مثلاً يحصر البلاغة في أقسام عشرة هي: الإيجاز والتشببيه والاستعارة والتلاؤم والفواصل والتجانس والتصريف والتضمين والمبالغة وحسن البيان. ثم يمضي لتفسير كل قسم في ضوء الآيات القرآنية وبيان أسرار الجمال فيها، وذلك في كتابه النُّكَت في إعجاز القرآن، الذي يُعَدُّ حلقة مهمة من حلقات التأليف في البلاغة العربية.
وقد بلغ التصنيف في علوم البلاغة غاية بعيدة من النضج والإحكام على يد الإمام عبد القاهر الجرجاني الذي وضع كتابَيْه “أسرار البلاغة” و “دلائل الإعجاز”، وكان لهما منزلة عالية في نضج التفكير البلاغي، ويتضح فيهما توجيه علوم البلاغة توجيهاً خالصاً لخدمة القرآن الكريم.
وهذا هو صاحب “الصناعتين” يقول في مقدمة كتابه: “قد علمنا أن الإنسان إذا أغفل علمَ البلاغة، وأَخَلَّ بمعرفة الفصاحة، لم يقع علمه بإعجاز القرآن من جهة ما خَصَّه الله به مِنْ حسن التأليف وبراعة التركيب”، بل إن العسكري في كتابه يرى أن أحقَّ العلوم بالتعلُّم وأَوْلاها بالتحفظ بعد المعرفة بالله، علم البلاغة، ومعرفة الفصاحة، الذي يُعرف به إعجاز كتاب الله تعالى الناطق بالحكمة.
ومن هنا فإن الدارسين المحدثين لَمَحوا علاقة علم البلاغة بكتاب الله؛ يقول الدكتور مازن المبارك: “وهكذا نشأت البلاغة وترعرعت تحت راية القرآن والبحث في إعجازه، وهذا البحث هو الذي وصل بها إلى أن تصبح علماً مستقلاً يُخَصُّ بالتأليف، بل لقد ظلَّت البلاغة بعد نضجها واستقلالها أيضاً عالقة بفكرة إعجاز القرآن والدفاع عنها”.
ويشارك القرآن الكريم في تربية الذوق البياني لدى الفرد، ويُنَمِّي لديه حاسَّة النقد والملكة الأدبية في الكشف عن مواطن الجمال، وقد وضع البطليوسي في شرحه لخطبة “أدب الكاتب” غرضَين لطلب الأدب والاهتمام بمدارسته، “أحدهما: يقال له الغرض الأدبي، والثاني الغرض الأعلى، فالغرض الأدبي يَحْصُل للمتأدِّب بالنظر في الأدب والشعر، والغرض الأعلى يَحْصُل للمتأدِّب من فهم كتاب الله وكلام رسوله”.
ولذلك فإن معشر البلغاء والكُتَّاب كانوا حريصين على التزود من مَعين كتاب الله، كما كانوا يُوصون المتأدِّبين بالعكوف على أسلوبه وبيانه؛ ليفيدوا منه في صقل أساليبهم، وترقية بيانهم. يقول عبد الحميد الكاتب: “تنافسوا يا معشر الكتاب في صنوف الآداب وتفقهوا في الدين، وابدؤوا بعلم كتاب الله تعالى، ثم العربية، فإنها ثِِقَاف ألسنتكم، ثم أجيدوا الخط فإنه حِلْية كتبكم، وارْووا الأشعار، واعرِفوا غريبها ومعانيَها، وأيامَ العرب والعجم وأحاديثَها وسيرَها؛ فإن ذلك مُعين لكم على ما تَسْمُو إليه هممكم».
ونخلص إلى أن البلاغة العربية في نشأتها وتطورها وثمارها لا تنفكُّ عن القرآن؛ إذ سَعَتْ في خدمة بيانه، وساهمت في شرح إعجازه وبديع نظمه.

بتصرف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *