للمدرسة الخصوصية المغربية أصول في تاريخ التعليم بالمغرب، بما تحيل عليه من خلال تعريفها. فإذا كانت تعني إحداث نظام تعليمي خاص يتميز عن النظام التعليمي العمومي، فإن لها تجليات أولى، في المدارس اليهودية التي انتشرت في المغرب قبل “الحماية”، ثم في المدارس الفرنسية التي تأسست كنقيض للتعليم التقليدي في المغرب، كذا في المدارس الحرة التي أسسها الوطنيون ردا على التعليم الاستعماري.
ولم يظهر التعليم الخصوصي دفعة واحدة كما هو اليوم، بل مر بمراحل كان في كل منها يجيب على خصاص أو على تحدّ من تحديات الدولة. فلما لم تكن الدولة تشمل بتنظيمها التعليم الأولي، أدت دور تعليم القرآن (المسيد) ذلك الدور، إلى أن ظهر ما يسمى بـ”رياض الأطفال” التي كانت ومازالت منتشرة في أحياء المدن.
وبعد استقلال المغرب حدثت نقلة ديمغرافية كبيرة، بالإضافة إلى إقبال الآباء والأمهات على المدارس العمومية أكثر من ذي قبل، إذ اعتبروها السبيل الوحيد لإيجاد وظيفة لأبنائهم في مؤسسات دولة الاستقلال. أدى هذا الإقبال الكبير إلى اختلال التوازن بين قدرات الدولة المادية والبشرية من جهة، وحاجة المجتمع من جهة أخرى. فاضطرت الدولة إلى فسح مجال الاستثمار في التعليم للخواص، ليتعزز هذا الاختيار بعد تبني المغرب لخيار الخوصصة في سياق دولي معروف يعود إلى ثمانينيات القرن الماضي.
بدأت التجربة ابتدائية أولا، ثم ما فتئت أن انتقلت إلى باقي المستويات الإعدادية والثانوية، تجيب على الخصاص الذي يشهده قطاع المدرسة العمومية، نظرا لمحدودية الموارد من جهة وحاجة الإدارة والمجتمع إلى المتعلمين من جهة ثانية.
ومع ارتفاع نسب الهدر المدرسي، في ثمانينيات القرن الماضي، ظهرت مدارس خاصة من نوع جديد؛ تشتغل على معالجة هذه المشكلة التي تعبر عن عطب من أعطاب المدرسة العمومية. كانت -وما زالت-هذه المدارس تستقبل المطرودين من المدرسة العمومية أو عدم الراغبين بإتمام الدراسة فيها، فتعيد إدماجهم وتأهيلهم لاجتياز الاختبارات الحرة.
وكما انتشر هذا النوع من التعليم في المستويات ما قبل الجامعية، عرفه التعليم العالي في خضم تحديات جديدة فرضها سوق الشغل وحاجة الرأسمال المحلي والأجنبي. فتم تأسيس معاهد خاصة للهندسة والتكنولوجيات المختلفة، تخرج التقنيين والمهندسين للعمل في المصانع والشركات الكبرى. كما تم تأسيس كليات خاصة للطب تعمل على تأهيل أطباء للعمل في العيادات الخاصة. وأخيرا، سمحت الدولة للجامعات الخاصة بالعمل في المغرب، تماشيا مع متطلبات سوق الشغل وتحديات الاقتصاد الوطني.
لا تخفى على أحد المزايا التي يمتاز بها التعليم الخصوصي من حيث الجودة ورقي المعاملة والمراقبة المستمرة، إلا أنه يسفر عن تحديات وجب على المسؤولين على القطاع اعتبارها بل والتعامل معها بجدية كبيرة؛ ونذكر من هذه التحديات:
– تعزيز التفاوت بين المدرستين: أي بين المدرسة العمومية ونظيرتها الخصوصية؛ وذلك عندما تصبح هذه الأخيرة انعكاسا للتفاوت الحاصل اجتماعيا. وعوض أن يعمل التعليم على تقليص الفوارق الاجتماعية، “يعيد إنتاج نفس البنيات” بتعبير بيير بورديو.
– تبني مقررات لا تحتملها الخصوصية: فعادة ما تستورد بعض المدارس الخصوصية مقررات من خارج المغرب، خاصة تلك المتعلقة باللغات الأجنبية والتي يتم استيرادها من بلدانها الأصلية. قد يمنح هذا التقليد سمعة للمدرسة بخصوص تدريس اللغات، إلا أنه يبقى محفوفا بالمخاطر الثقافية والهوياتية. فاللغة وعاء ثقافي، فما بالك إذا كانت بعض المضامين الثقافية أو أغلبها دخيلة على الثقافة المغربية.. سنكون آنئذ أمام اختراق ثقافي باسم “تدريس اللغة في مقررات محكمة”.
– تحول التعليم إلى مجال استثمار: التعليم قطاع اجتماعي، يراعي الخصوصية وحاجة المجتمع وأوضاع الناس الاجتماعية. إنه مهمة نبيلة تتوارثها الأجيال لحفظ عقولها ومصالحها الجمعية. أما إذا أصبح مجالا للاستثمار والربح، فإنه يفقد هذه المعاني ويخاطب في الزبائن ليس المطلوب واقعا وحقا، بل الرغبات المدرة للأرباح. تعمل الدولة على معالجة هذا المشكل، بفرض مدراء تربويين وحراس عامين يديرون المؤسسات الخصوصية بدل صاحب المشروع، إلا أن تدخله يبقى مفروضا بقوة الواقع لأنه مالك وسائل الإنتاج، فكيف يعترض عليه موظفوه؟
– استغلال الأساتذة والعاملين: وهذه مشكلة أخرى، لأن الأستاذ في القطاع الخاص يبقى دون أساتذة المدرسة العمومية، من حيث ظروف عمله وحقوقه الاجتماعية. كما أن بعض المدارس تتعمد توظيف النساء على الرجال، بعد تجارب أظهرت أن هؤلاء أقل قبولا بالاستغلال من النساء. ولنا أن نتوقع ما الذي ستنتجه مدرسة يكون فيها الأستاذ حلقة أضعف أمام “مالك قوته اليومي”؟ في حين يجب الرهان على مكانة الأستاذ، على قدوته، حتى لا تفقد الأجيال قيمها وأخلاقها وهي تجري وراء سراب “الوظيفة وجمع الأموال”.
– اضطراب معايير التقييم: حيث كثيرا ما تضطر الإدارات للتدخل في نقط التلاميذ، وعادة بالزيادة فيها، إخفاء لعجز المدرسة الخصوصية عن معالجة المشاكل التعلمية، وإرضاء للآباء (الزبائن) حيث أصبحت للنقط قيمة مادية، في ظل تراجع قيم الجدية والانضباط والاجتهاد والبحث عن المعرفة لصالح قيم التفاخر والتباهي والهدايا و”شراء كل شيء”…