الصهيونية في الثقافة الأوروبية.. عبد الصمد ايشن

أُنشئت “إسرائيل” كمستعمرة في إطار المشروع الاستعماري الغربي الأوروبي الذي خرج من رحمه المشروع الاستعماري الصهيوني، بناء على خلفية مسيحية بروتستانتية تربط عودة المسيح المنتظر وبدء الألفية المسيحية السعيدة بإقامة دولة لليهود في فلسطين وبناء الهيكل الثالث وحدوث معركة “هارمجدون“..

 

أرسلت رئيسة المفوضية الأوروبية “أورسولا فون دير لاين” رسالة تهنئة إلى الكيان الصهيوني مُسجلة عبر “تويتر” في ذكرى مرور 75 عاماً على نشأته. ومما جاء فيها: “إن إسرائيل هي الديمقراطية النابضة بالحياة في قلب الشرق الأوسط. وقد جعلت الصحراء تزدهر”.

وتحدثت رسالة التهنئة المكتوبة باللغة العبرية عن “المأساة اليهودية والوطن القومي وأرض الميعاد”، وأشادت بالقيم الموحدة والثقافة المشتركة و”الحضارة الراقية” التي تجمع أوروبا و”إسرائيل”، وختمت بقولها لرئيس الكيان الصهيوني ومستوطنيه: “يوم استقلال سعيد”.

الرواية الصهيونية التي تبنتها رئيسة المفوضية الأوروبية عن فلسطين الصحراء التي عمّرها “الرواد المتحضرون” الآتون من “أوروبا المتحضرة”، جزء من أساطير خداع وسرديات مُضللة كثيرة روجت لها الحركة الصهيونية ودمجتها أوروبا في منظومتها الفكرية الاستعمارية، وفي مركزها فكرة “فلسطين الصحراء” ذات الجذور الاستعمارية الأوروبية.

ترى أوروبا نفسها وامتداداتها الاستعمارية مركز العالم ومنبع الحضارة وحديقة الأرض، فيما بقية العالم هامش مُتخلف ما بين صحراء قاحلة وغابة مظلمة، عليه أن يتبع المركز، ويخضع للحضارة، ويسمح لأصحاب الحديقة بأن يحولوا الصحراء إلى جنة مزدهرة، ويحولوا الغابة إلى بستان جميل.

الأكذوبة التي تروجها للرواية الصهيونية هي أن “فلسطين أرض صحراء بلا شجر”، فالصحراء تكون خالية من الشجر، إضافة إلى خلوها من البشر، وإن وُجد الشجر، فهي أحراج نباتية أو شبه نباتية من الأشجار المتناثرة غير المثمرة وغير المنتجة، حوّلها المستوطنون اليهود الصهاينة الآتون من أوروبا إلى حديقة مزدهرة ملأى بالأشجار المُثمرة والنباتات المُنتجة، بعدما استصلحوا الأرض البور والصحراء القاحلة والأحراج المتناثرة بعلمهم وجهدهم وإبداعهم، بحسب الرواية الصهيونية.

التطابق بين الروايتين الاستعماريتين -الأوروبية والصهيونية- وتبني رئيسة المفوضية الأوروبية الرواية الصهيونية في أكذوبة الصحراء التي ازدهرت يعودان إلى حقيقة أن “إسرائيل” أُنشئت كمستعمرة في إطار المشروع الاستعماري الغربي الأوروبي الذي خرج من رحمه المشروع الاستعماري الصهيوني، بناءً على خلفية مسيحية بروتستانتية تربط عودة المسيح المنتظر وبدء الألفية المسيحية السعيدة بإقامة دولة لليهود في فلسطين وبناء الهيكل الثالث وحدوث معركة “هارمجدون”.

هكذا، يتضح أن الموقف الغربي في قضية فلسطين ينبع من مركزية الكيان الصهيوني في سياسة الغرب ومنظومته الفكرية وثقافته الاستعمارية، وخصوصاً الدول الراعية للكيان، ابتداءً من بريطانيا، وانتهاءً بأميركا، مروراً بفرنسا وألمانيا.

من اللافت اليوم في سياق الحرب الظالمة والوحشية على غزة ملاحظة طبيعة الغطاء السياسي الذي تقدمه الدول الأوروبية للمجازر الصهيونية البشعة على الفلسطينيين والتي وصلت إلى حد تبرير التطهير العرقي والإبادة الجماعية.

نشأت الصهيونية بالأساس في أوروبا، ووجدت الدعم الرئيسي لها في أوساط نخب المال والأعمال والسياسة في هذه الدول منذ نهايات القرن التاسع عشر..

بالنسبة لدول مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا، وبالنسبة لكبار المسؤولين الأوروبيين الذين يمثلون هياكل الإتحاد الأوروبي لم يستغرق التعبير عن الإصطفاف الكامل إلى جانب الكيان في حربه الحالية سوى بضع ساعات. لقد كانوا في تل أبيب بعد هجمات 7 أكتوبر مباشرة، مبدين تعاطفهم مع “الشعب الإسرائيلي” ومانحين، دون أي تحفظ، كل الحقوق لحكومته من أجل “الرد على الإرهاب”، بكل القوة الممكنة. إن رؤيتهم يتوافدون على مطار بن غوريون، بل ويتنافسون أيهم الأسرع وصولا إليه، مثير.

نشأت الصهيونية بالأساس في أوروبا، ووجدت الدعم الرئيسي لها في أوساط نخب المال والأعمال والسياسة في هذه الدول منذ نهايات القرن التاسع عشر. وإذا كان انتظار نضوج الظروف السياسة الدولية هو الذي جعل هذا الدعم ضعيفا في البداية، فإن تملك الأوروبيين بمصير المشرق العربي منذ نهاية الحرب العالمية الأولى عبر فرض الإنتدابين الفرنسي والبريطاني على المنطقة التي قسمت دولا وأقاليم، قد أنتج تعاظما في هذا الإلتزام.

فكريا، نشأت الصهيونية كرد فعل على فشل اندماج اليهود في المجتمعات الأوروبية، وفي سياق الحمى القومية التي ظلت تهز أوروبا خلال القرن التاسع عشر بالخصوص. إن تصاعد الفكرة الصهيونية قد تزامن مع تصاعد الفكرة العنصرية التي ستسمى “لاسامية”، وهي فكرة ذات منشأ أوروبي حصريا.

وبغض النظر عن كتلة العوامل المعقدة التي نشأت في خضمها اللاسامية، كرد فعل ثقافية ودينية وعرقية وقومية، فقد كان الأمر يتعلق بالتأكيد بشعور مخترق للمجتمعات الأوروبية في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. يكفي أن نعرف أن تصاعد الشعور بالعداء لليهود قد عرف أوجه في ألمانيا في ثلاثينات القرن العشرين بالخصوص، أي في البلد الذي كان اليهود فيه أكثر إندماجا وتشبعا بالثقافة الأوروبية.

هل أنتجت العنصرية الأوروبية الظاهرة الصهيونية؟

يميل التحليل التاريخي الكلاسيكي لتأكيد ذلك، من خلال التدليل بأن تصاعد العنصرية الأوروبية ضد اليهود قد أدى لنشأة الفكرة الصهيونية. لكن الأمر، بالتحليل الثقافي والفلسفي، أكثر تأكيدا على تساوي الظاهرتين من حيث نشأتهما عن نفس الثقافة، وليس اعتبار الثانية مجرد نتيجة منطقية للأولى.

نقصد بذلك أن الصهيونية مجرد تنويع تفصيلي ناشئ، مثل النازية تماما، عن طبيعة الفكر الأوروبي في نهايات القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. الأمر لا يتعلق إذا بسبب ونتيجة، بل بظاهرتين ناشئتين عن نفس المنبع الأم (عدنان منصر/ باحث تونسي).

هناك أدلة كثيرة على ذلك في تبريرات الحركة الاستعمارية الأوروبية التي نجد أنها نفسها تقريبا بالنسبة لتبرير تركيز المشروع الصهيوني في فلسطين: التفوق الحضاري الأوروبي، وواجب نشر المدنية في الفضاءات التي تحكمها الهمجية. نزع الصفة الإنسانية عن الشعوب المستعمرة التي تفقد كل حقوقها الفردية والجماعية بمجرد تحقق الغلبة للمستعمرين الأوروبيين. ميكانيزمات الإستيطان وتوازيه دائما مع عنف استعماري بلا حدود يصل، دون أي شعور بالذنب، إلى حد المجازر في حق المدنيين العزل، والتطهير العرقي. هذه كلاسيكيات معروفة. ينبغي أن ننظر لتاريخ الإستعمار الفرنسي في الجزائر، ونقارنه بما يحدث في فلسطين منذ حوالي القرن، لنفهم أن الثقافة ذاتها هي التي كانت تتحرك على الأرض.

إن نفس المعجم العنصري الذي يصل إلى حد تبرير الإبادة العرقية يعاد تكراره اليوم ضد الفلسطينيين، ومن طرف الأوروبيين أنفسهم وليس من طرف قادة ومنظري الصهيونية فحسب. بالنسبة لمن يستطيع التعمق قليلا في المقارنات التاريخية، التشابهات والتطابقات صادمة بجلائها وموغلة في حدتها.

يكفي النظر في طريقة تغطية الإعلام الفرنسي والألماني بالخصوص للحرب على غزة، حتى نعرف أن مقومات العنصرية الغربية لا تزال تفعل فعلها الكبير في الفكر الأوروبي، وأن نفس المصطلحات تقريبا تعود من جديد. يجتمع ذلك في المعادلة التي تتم بين الدماء، والتي تقول بلا مواربة أن الدم اليهودي أغلى من الدم الفلسطيني، وأن إراقة قليل من الأول تقتضي إراقة الكثير من الثاني، وأن ذلك محض عدالة. هذا كلام قديم قيل طيلة قرون قبل ظهور الفكرة الصهيونية ذاتها.

تجتمع في الصراع الدائر اليوم كل مقومات الحرب العنصرية التي تجد مبرراتها في الفكر القومي الأوروبي، بغض النظر عن لائكيته أو عن وجود عناصر دينية تدعم مبرراته عند الضرورة. الفكرة العنصرية الأوروبية أنشأت اللاسامية والصهيونية والنازية في اللحظة نفسها التي بدا فيها أن الأوروبي متفوق على الآخرين ومن حقه إخضاعهم أو إبادتهم. هذه قناعات شديدة الترسخ لا يمكن أن تمحي في قرن من الزمان، مهما بذل من جهد لمداراتها تحت غطاء “القيم الكونية”.

لذلك فإن ما يقاومه الفلسطينيون اليوم ليس مجرد كيان مدجج بالقتل والدماء والسلاح، بل فكرة عنصرية أوروبية تجعل الشعوب كلها مجرد غنيمة للعرق المتفوق.

المستوطنون اليهود في فلسطين اليوم يلخصون هذه الفكرة العنصرية لكنهم لا يحتكرونها، لأن منبعها الأصلي لا يزال متدفقا في القارة الأم، أوروبا. هذا ما يعطي الفلسطينيين اليوم التفوق الأخلاقي الذي نراه على الميدان والذي يعبر عنه صمودهم وقدرتهم على التضحية وحفر مصيرهم في صخر التاريخ: لقد أصبحوا يلخصون ببساطة نقيض تلك الثقافة الأوروبية التي كانت تصنع باستمرار العنصرية والإبادة والقتل، وتشكل العالم الظالم الذي نعيش فيه اليوم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *