إن ما يجري على هذا الصعيد هو تدخل مباشر للهيئات الدولية التي تقدم الدعم المادي من خلال مجموعات من شبكة المصالح وهيئات المجتمع المدني للترويج لقيم وأفكار محددة، تنسجم مع رؤية تلك الهيئات، ومع توجهاتها الثقافية والاجتماعية والأخلاقية، أي لإعداد جيل من الناشئة على قيم جديدة مصدرها مجتمع آخر غير المجتمع الذي تنتمي إليه
إن التغيّرات التي حصلت بين الأمس واليوم في أهداف الاختراق الثقافي ووسائله، هي الدور الذي يقوم به اللاعبون الجدد على حساب سيادة الدولة، أي الأمم المتحدة، والهيئات والمنظمات الدولية، والجمعيات غير حكومية التي نبتت كالفطر منذ سنوات في أكثر من بلد من بلدان العالم العربي والإسلامي، مثل جمعيات الدفاع عن المرأة وحقوق الإنسان، والمواطنة، ومناهضة العنف، ومراقبة الانتخابات ونشر الديمقراطية، والتربية على التسامح ونبذ العنف،.. ومعظم هذه الجمعيات يتلقى تمويلاً من الأمم المتحدة، أو الإتحاد الأوروبي، أو جمعيات أميركية.. أو من البنك الدولي.
الذي يحدد هذه القضايا هي الجهة الداعمة للدراسات والندوات والأبحاث، أي أن الجهة المانِحة تنفق المال لإنجاز دراسات وعقد ندوات تجذب إليها الباحثين والمثقفين، وتكلّفهم بإنجاز أبحاث تخدم أهدافها ومخططاتها، فعندما تدعم -مثلا- مؤسسة كـ”فريدريك إيبرت” بحثا اجتماعيا يرمي إلى دراسة القيم والممارسات الدينية عند المغاربة، فلأنها تريد تسليط الضوء على هذه القضية بالذات، وتجلية صورتها، لوضع استراتيجية مستقبلية تخدم أهدافها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
إن الاختراق على هذا المستوى لا ينحصر بتبنّي الموضوعات التي تريد الجهة الداعمة توجيه الاهتمام إليها، وإهمال موضوعات أخرى قد تكون أكثر إلحاحًا وأهمية من وجهة نظرنا، بل تكمن الخطوة أيضًا في النتائج التي يفترض أن تتوصل إليها تلك الدراسة، والتي لا ينبغي لها أن تتعارض مع توجهات الجهة الداعمة ورؤيتها السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية لقضايا كالتدين، والقيم، والحجاب، والعنف ضد المرأة، والنظرة إلى الآخر، والتسامح الديني.. وغير ذلك.
لقد تحوّلت كثير من الجمعيات والهيئات إلى واجهات تعرض ما يطلبه السوق من البضائع لتحقيق الربح المباشر.
تقول “سيلفي برونيل” -التي أمضت سبعة عشر عامًا في العمل الإنساني وكانت مسؤولة عن الأبحاث في منظمة “أطباء بلا حدود”- هذه المنظمات التي “تحوّلت إلى مؤسسات تجارية تعمل على خدمة مصالحها.. والتي تطالب الجميع بالشفافية، وتقضي وقتها في إعطاء الدروس للآخرين، وهي بعيدة تمامًا عن تطبيق ما تعلمّّه”، وتضيف “برونيل”: “هذه البنى أنتجت أصحاب امتيازات لا يتميزون بأي بعد إنساني.. وأن لديها انطباعًا قويًا بأن معايير إطلاق المهمات ليس فائدتها بالنسبة إلى الشعوب بل استمرار مقدمي الأموال في تحويلها إلى هذه المنظمات..”.
هذا التسويق الذي تقوم به تلك المنظمات وصل إلى المناهج والبرامج التعليمية الثانوية والجامعية، لتكييفها مع ما يريده السوق الغربي، أي مع ما تطلبه الدول الداعمة، وما تتوقع أن تراه معروضًا… والأمر هنا لا يتعلق بعزم الغرب على تغيير النظام التعليمي في بلدان العالم الإسلامي كالمغرب والمملكة السعودية أو باكستان.. بل في قدرة بعض شبكات المصالح من داخل هذه البلدان من مثقفين وباحثين وما لهم من علاقات مع الهيئات الدولية على تمويل بعض برامج ومناهج التعليم بما ينسجم مع رؤية تلك الهيئات وحاجاتها.
إن ما يجري على هذا الصعيد هو تدخل مباشر للهيئات الدولية التي تقدم الدعم المادي من خلال مجموعات من شبكة المصالح وهيئات المجتمع المدني للترويج لقيم وأفكار محددة، تنسجم مع رؤية تلك الهيئات، ومع توجهاتها الثقافية والاجتماعية والأخلاقية، أي لإعداد جيل من الناشئة على قيم جديدة مصدرها مجتمع آخر غير المجتمع الذي تنتمي إليه.