ربما كانت قاعدة الانطلاق لوضع خارطة الطريق ورسم تصوّر نهائي عن معالم الفيلم الهوليودي الأمريكي قبل الشروع في تشكيل ملامح سيناريوهاته التشخيصية ذات الدلالة والقصد المدخون، وأعني به فيلم “الناجي الوحيد” هي مقولة المفكر والفيلسوف والمنظر العسكري “كارل فون كلاوزفيتز” والتي أخبر فيها عن فلسفة واقتناع وذوق تجربة على أن: “الحرب هي ذلك العمل الخطير الذي تكون فيه الأخطاء الناتجة عن الرحمة سيئة للغاية”.
ولعل من اطلع على تفاصيل الفيلم وقف على ملمح العلاقة بين هذه المقولة وأحداث الفيلم، بل علم وجهة وصوب هذه الرحمة ذات النتائج السيئة للغاية، وأنها تلك الرحمة التي يتدثر بلباسها الظالم الغاشم ويجود بصكوكها من جيب بدلته العسكرية وفوهة مدفعه القاتل على معشر المستضعفين، من الذين انتهكت حرمة أرضهم وأعراضهم وأرواحهم وعمرانهم، بل استبيح منهم كل شيء قابل للغصب ظلما وعدوانا، في غير حسيب ولا رقيب ولا نهي ولا متابعة قضائية لهذا الصائل الغائر، اللهم التماسات تضج خطاباتها الرسمية وغير الرسمية بعبارات باردة لا روح فيها ولا حرارة منبعثة في استحياء من هنالك من قبيل: “نشجب ونحتج ونستنكر”، ومن هنا: “ثمة استرجاع وحوقلة، وإدمان فرجة غير ممتعة لمآسي جور يُصب على رؤوس إخواننا في العراق وأفغانستان وغزة فلسطين الجريحة، تنقلها عميدة الإعلام العربي، قناة الجزيرة كل يوم وليلة حتى أفقدنا المساس مع شاشتها مطلق الإحساس”.
وتتلخص الفكرة المحورية لفيلم “الناجي الوحيد”المستمدة من واقع الحرب كما زعموا، حيث يذهب بنا مخرج الفيلم “بيتر برغر” تحت وقع موسيقى تصويرية هادئة تعصف بمشاعر المشاهد النخبوي ناهيك عن عوام الناس وبسطائهم من مدمني الأفلام الأمريكية المنبهرين بالصورة والإخراج الهوليودي، في رحلة عبر جبال أفغانستان الشاهقة حيث الغاية من هذه الرحلة العسكرية هو عملية إنزال لفريق من الكومندو متكوّن من أربعة جنود مارينز على مقربة من معسكر لأحد قادة طالبان، كلّفوا من طرف قائد لوائهم باغتيال أحد “الإرهابيين” وهو الذي قتل ثمانية عشر جنديا من المارينز قبل أسابيع، وهذا أوّل انطباع مدخول يأخذ جرعته المتلقي المشاهد، فإن هذه الرحلة القاسية لهؤلاء الأبطال الأشاوس إنّما هي ردة فعل وتأدية لواجب الثأر لدم زملائهم المهدور من طرف واحد من إرهابيي طالبان…في غمرة حدث الإنزال السري تفاجئ المجموعة بأن مكان تربصهم انفضح من طرف أب واثنين من أبنائه ساقتهم ظروف رعي ماعزهم إلى عين المكان… يقبض عليهم الجنود، ثم يحاول رئيس المجموعة الاتصال بالقيادة لأخذ فتوى حربية في شأن المحتجزين، يكتشف عبر مكرر محاولات باء آخرها بالفشل على أن الاتصالات مستحيلة فقد تعطل الربط وانقطع الاتصال بغرفة القيادة… ليبدأ للتو نقاش حامي التداول بين أفراد المجموعة، حيث ينحاز أحدهم إلى خيار قتلهم لأنهم باتوا مصدر تهديد لسلامة المجموعة ولفشل المهمة، فيطفق ثانيهم معترضا على خيار القتل لعلة صغر الصبيين ومنكوس عُمُرِ والدهم الشيخ المسن، بينما يختار الثالث خيار زميله الأول أي تصفيتهم لائكا مستشفعا بين يدي خياره بذلك التعبير الإعلامي الشهير الذي ساد واحتل وجدان الأمريكان مباشرة بعد أحداث سبتمبر: “إنهم يكرهوننا”، بينما يقرر الرابع خيار ربطهم والانسحاب في هدوء، فيستدرك عليه أحد الثلاثة تحت طائلة ومعطى إنساني “تشخيصي” فياض: إن ربطهم قد يؤدي كذلك لقتلهم بسبب البرد والذئاب الوحشية الجائعة…ثم يستقر الأمر على إطلاقهم ومن ثم الانسحاب سريعا…لتنطلق الكاميرا تقتفيأثر الصبي الذي رفضوا قتله وهو يكاد يطير بين فجاج ونتوءات الجبل ليصل في لمح البصر لمعسكر أحد قادة طالبان “أحمد شاه” مبلغا وواشيا بأولئك الذين لو شاءوا قبل برهة من الزمن لجعلوا جسده الصغير رمادا تذروه الرياح، لقد طار في مشهد تقشعر منه جلود المتفرجين ليرد لهم صاع الجميل بصاعين من الجحود والنكران، ذلك الجحود الذي قلّ نظيره حتى بين معشر الحيوانات الضارية أو في علاقتها مع المحسنين إليها من بني البشر… وليبدأ مسلسل الملاحقة، وتقفي أثر الجنود المحسنين من طرف عناصر طالبان، تلك المطاردة التي ستنتهي بموت ثلاثة من الجنود وانفجار طائرة جاءت لإنقاذهم، بينما سيستصرخ رابعهم مستجيرا بإحدى القبائل التي ستتعرض لهجوم عنيف من عناصر طالبان وهي التي رفضت تسليم الجندي الأمريكي لهم…
ولك أيها اللبيب أن تتخيّل وضع المشاهد بل أن تغوص في وجدانه لتكتشف ما سُرق من دواخله على غفلة وانتباه من رصيد انتسابه وحجم تبنيه لقضايا المظلومين المضطهدين من أمته، كما لك أن تتدبر في ماهية الرسائل الظاهرة والباطنة التي سيتم حقن وعيه ولاوعيه بها، وهو يشاهد ويتابع في نفسية متسخطة متحرجة تراجيديا هذه المأساة التي راح فيها ضحية للرحمة وقربانا للمعاملة الإنسانية والشعور الحضاري هؤلاء الأبطال من جيش البحرية الأمريكية، لتقف بعد هذا عند طبيعة الوسيلة التي سيتكرس في جوفه وذهنه عبرها هذا التدليس الغاشم، والذي يسوقه سوق الأنعام ليستقبل في رضا ويقين وتسليم شعارهم الذي انتشرت عبارته انتشار النار في الهشيم إبان أحداث سبتمبر الإرهابية شعار “إنهم يكرهوننا”، ولينضم صوته بعد ذلك للأصوات المنبعثة من داخلنا والداعية إلى محو هويتنا ومجافاة ديننا وشريعته، وأنها مصدر شقائنا وتخلفنا، وخوف وتعاسة الناس من حولنا…
إن الفكرة التي يروّج لها الفيلم، هي واقعة تشرعن للمنطق الحربي المتوحش، الذي لطالما ألغى، أو بالأحرى نسف ذلك السند القانوني الأخلاقي الذي سعى المنظرون له من خلال العديد من الاتفاقيات، إلى وضع حدود فاصلة من شأنها أن تميِّز بين الذي يحمل صفة “المقاتل” وبين المدني أو المواطن العادي، فتصبغ على هذا الأخير صفة البراءة، بينما يبقى العدو الواجب استهدافه من بندقيتها وطائراتها الموجهة ممثلا في القيادات وسخائم الأجناد الشريرة.
ولعله منطق حربي تبناه الغرب الأمبريالي، حيث صار كبارؤه يرون أن من حق آلتهم القاصفة الراجمة من البر والبحر والجو أن تستهدف نيرانها بالإضافة إلى المجموعات المقاتلة، كل من يحتمل أنه يدعمها أو حتى يصفق لها رضا بما تصنع، أو يرى في عملها الإرهابي أنه مقاومة مشروعة يُدفع بها الصائل المعتدي، وهذا طبعا فيما يخص المعركة على الأرض، وفي ساحات الوغى، أما فيما تحفل به الأروقة، وتحت ظلال أشعة النيون وراء ضغث الميكروفونات ومكبرات الصوت، أو على طاولات التنظير والمشورة الصورية، فالأمر مختلف والدور منقلب، فلا تزال حكومات الجيوش المقاتلة حفية بكل خطاب ووعد يكسب حروبها الظالمة صفة المشروعية،ويلبسها لباس العفة والتورع، ومن ثم يزيد في رصيد سمعتها منسوبًا أخلاقيا وأدبيا ذا طابع إنساني محض، منسوب قادر على أن يستنزف ضجيج منظمات المجتمع الدولي، ويقمع ضميرها الملتزم بقضايا السلام العالمي ومركزية مصالح الإنسان، وهو هاهنا في سياق هذه الازدواجية يمثل دور ذلك المجرم السادي الذي دأب أن يقتل القتيل ثم يُرى وهو يمشي باكيا نائحا خاشعا وراءجثة ضحيته في موكب جنائزي مهيب…
هذا ويشير الفيلم في سياق ما يصبو إلى بعثه من رسائل، إلى ظاهرة ما فتئ أي محتل ومستعمر يسعى للتقعيد لواقعها أينما أناخت دبابته المقتحمة مطايا دخيرتها، تلكم هي الإشارة بمائة مشهد وألف عبارة إلى ظاهرة الانقسام التي يشهدها المجتمع الذي تعرضت أرضه وجغرافيته إلى غزو واقتحام استعماري أمبريالي غاشم، وهو انقسام يشطر المجتمع إلى فسطاطين، فسطاط على ضوء انسحاقه وانبطاحه وتعاونه وركوبه على جناح مصالحه الشخصية في أنوية طافحة لا اعتبار في أدبياتها لوطن ولا أرض ولا عرض، وعلى عتمة وغسق ما وقع فيه هذا الفصيل من الشعب من خيانة على أدق تعبير وأصدق وصف، يتم تجريم وتخوين ورمي الفسطاط الثاني بتهم التطرف والإرهاب والظلامية…
وقد آثر المخرج أن يخصص خاتمة فيلمه على اعتبار أن العبرة بالخواتيم، وأنها أبقى شيء يُعمِّر طويلًا، وتمكث مشاهده الدرامية في الذاكرة، ويتأثر به المتلقي في مقام الاتعاظ والاعتبار، حيث تبرز المشاهد الأخيرة تلك العلاقة الحميمية الصادقة التي تتوثق عراها بين الجندي الأمريكي وابن الأفغاني الذي أنقذه وهو الصبي الذي لم تتجاوز سنه السابعة، تلك العلاقة والصلة التي يبلغ أوجها في نهاية الفيلم إلى المدى الذي يجعل ذلك الصبي الأفغاني يستجيب لاستصراخ الجندي الأمريكي وهو يعارك أحد عناصر طالبان والذي كاد أن يقضي على غريمه الأمريكي، لولا تلك اليد البريئة، يد الطفل تمد ذلك الجندي الغائر المستعمر بسكين يقلب به موازين هذا العراك ويردي عنصر طالبان قتيلا في مصرع تقر به عين المشاهد ويطمئن به فؤاد المستسذجين من الناس.
إنها دلالات رمزية لها وزنها، كما لها سطوتها في إعادة إنتاج وتوجيه فكرنا في ظل عولمة متغطرسة، لا اعتبار فيها لحدود ولا لهوية، كما لا مكان فيها للضعيف، ولا التفات لأنينه وشكواه، بل صار من المحرم على هذا الضعيف ـ وهو يحنذ في تنور هذه الغطرسة الغربية ـ أن يقاوم أو يدافع، أو ينظم صفوف مقاومته، فلقد بات كذاك المغتصَبِ الذي صار المطلوب منه ليس فقط ألا يقاوم ويدافع فعل الاغتصاب، بل عليه أن يحاول الاستمتاع بفعل الاغتصاب والاستلذاذ بعنفه ووحشيته، إظهارا منه لتمدنه وانخراطه في سلك الحداثة الضاربة في عمق التحضر، واللحاق بصف الكبراء، والترضي على فعلهم وصنيعهم مهما بدا عدوانيا وقاسيا، فتلك ضريبة الحياة، وقربان الضعفاء بين يدي ضمان حياة الأنعام في وسط تعج أركانه ومناكبه وأدغاله بالمفترسين من آكلي لحوم البشر…