آه ثم آه؛ عندما يعود العالم العامل المعلم إلى عرين الحق وثخوم المدافعة على حمى التركة التي استرعاه الله عليها، عندما يتحرر من القيود والمضايقات والمغريات التي أوردته موارد الهلاك والذل والوهن، عندما يعود بمنبر الجمعة إلى سالف زمن العز والكرامة والصدع بالحق في وجه المتربصين خصوم الدين، عندها يمكن أن نسجل بغير استدراك أو تعليق كلاما من قبيل ما اعترف به العلماني المصري المتطرف إبراهيم عيسى عندما جلس على كرسي البوح يضع يداه على حمالتي سرواله ليقول موجها خطابه إلى صحبة دربه من الإعلاميين المهجنين المستنسخين: “لقد هزمتنا خطبة الجمعة”.
نعم، هناك في بلاد الكنانة حيث كانت العلمانية تعربد تصول وتجول وتقول بقلمها وبلسانها: “ما أريكم إلا ما أرى”، وكانت تقول: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}، ولم يكن موسى في سياق معركتها الفرعونية إلا إسلامنا العظيم، فيا ليت شعري أين تلكم العين بعد هذا الأثر؟ وأين ذلك الركز والدعوى من هذا الفالج والانحسار؟
لقد بدد ضوء الصبح غاسق القبح وكر سيل الخير على قواعد الشر، كل هذا وزيادة بعد فضل الله تم إيجاد مناخه وصنع فلاحه بفضل عودة الدعوة الإسلامية بعد الإقعاد والإخلاد إلى سبيل الهدى والرشاد، مبتعدة كل البعد عن تلك الأيام التي كان يقدم فيها الإسلام المؤسسي بضاعة الدين بتنميط واجتزاء جعلها وجبة دينية سريعة القضم سرابية الهضم، وهي الوجبة التي أحاطت نفسها بهالة من المغريات والمشتهيات والتي لم تكن إلا جملة من التنازلات العمدية على أصول دينية، ولم تكن إلا تأويلات فكرية وكلامية عملت على تطويع نصوص الوحي بين فكي المصلحة الوطنية والإملاءات الإقليمية، التي لم تكن لتسمح للفرد الإسلامي أن يقيم منطقة أعراف بين نقيضي تلك الكلمة التي وقف الرئيس بوش الابن في أيام نحسات خلت، ليصدع بها على أكمة ركام أسلحة أمريكا الفتاكة، وذلك بعد توطئة وضحت سير الوعيد ولون المواجهة، حرب صليبية أولا، ثم معنا أو ضدنا ثانيا، مع كل ما تقتضيه هذه الكلمة الخفيفة على اللسان الثقيلة في ميزان قوى الفكر الإمبراطوري الغائر بالنسبة للكل الإسلامي الذي كان قبل هذه الكلمة وبعدها يقيم المحاضرات والتفسيرات والتأويلات الدينية التي تقبل بالآخر وتحب الآخر، فعلا وتركا، صفحا وتسامحا، ضما وعناقا، إنابة وإخباثا.
بينما ظل هذا الآخر وعبر عقود فكره معلق بفرض جاهليته علينا، واستيلاب أرزاقنا، وانتهاك حرمة أعراضنا، حتى وصل به الحال تحت ستار مسميات اجتثاث منابع الإرهاب والتطرف، أن يعيد لنا صياغة علاقتنا بربنا ومعبودنا، بل أملى علينا عبر آليات واستراتجيات إعادة إنتاج مادة عباداتنا في العقيدة والفقه والسلوك والسياسة والاقتصاد والجهاد، مما كان له الدور الفعال في إخصاب التربة التي خرجت منها نكدا؛ ليس نبتة هذه المرة بل شجرة العلمانية وانتشار فروع فكرها الذي كان قد لوح، لكنه اليوم تجرأ فصرح: لا نريد دينا مستوعبا لمناحي الدنيا والآخرة، فلا سبيل للسماح له بالعيش بيننا على غربة وضيق، إلا في كفن لا يستر عورة ولا يواري سوءة، وهو كفن التجزيء مقابل حلة الاستيعاب.
وهكذا وعبر مشروع الصياغة والهيكلة والثوابت ظهر إلى الواجهة وعبر مدرجات الجامعات الإسلامية الفكر الاعتزالي، الذي يعطي وأعطى هامش سبق للعقل على حساب النقل مما ساهم وكان له التأثير البالغ المباشر في حلول العقل واحتلاله لمكانة الوحي في منهج الحجة والاستدلال، والذي مهد للقناعات التي قادت مشروع الإيمان بالغيب نحو بوابة الأسطورة والظن الذي هو في مقابل اليقين العقلي.
أضف إلى هذا الدور الذي لعبه مشروع إعادة الفكر الإرجائي الذي انبنى وينبني على قاعدة إخراج العمل من مسمى الإيمان، زد على هذا ما جادت علينا به العقلية الصوفية التي خرجت من رحمها الخرافي بدعة التمييز في إطار بنيان الوحي المتراص بين الحقيقة والشريعة، مع إعطاء امتياز الأفضلية والمعيارية الولائية والسلوكية للحقيقة على حساب الشريعة التي هي محض ميراث الدين الكامل والنعمة التامة التي رضيها الله لنا إسلاما سمحا مستوعبا لعصمة الأمر الدنيوي والأخروي.
زد على هذا الخليط النكد ما عرفته العقيدة الصحيحة من تغور أعملتها يد الفكر الكلامي الذي أوّل وحرّف وعطل نعوت الله وصفاته العلى، مما خلق انحسارا فكريا في وجدان ونواصي المكلفين بالشرع الإسلامي حول الذات الإلهية وصفاتها الحسنى العلوية.
كل هذا وزيادة مفادها تلك الهزيمة النفسية التي أصابنا بها الالتفات بانبهار أخاد ومردي إلى الإبداع الغربي في مجال المكننة وحقول العلم والمعرفة الدنيوية، التي توّجها الإنسان الأبيض بغزوه لعوالم الفضاء وإنزال قدمه الراسخة على سطح العرجون القديم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجد أن الغزو الفكري الذي حل محل الاحتلال السافر الذي كان قد سجل إخفاق دبابته المعربدة وبندقيته المتطورة التي عطلت حركة زنادها مقاومة مرابطة مجاهدة كان قصدها قبل حماية الأرض والعرض إعلاء كلمة الله، وهو غزو فكري لا ننكر أنه نال حظه من النجاح والنجاعة بفعل ما أحدثه من شروخ وانسلاخات في صفوف كلنا المتراص؛ كان أبرزها أنه استطاع أن يركب من مادتنا الخام الإسلامية عجينة عجيبة غريبة نراها اليوم بتمكين منه لها تخوض الحروب والتسلطات نيابة عنه وبفاعلية أحسن منه، مسجلة بالسحنة المحلية واللسان العربي المبين انقلابا غادرا على الهوية التي كنا قبلها على شر وجاهلية واضعة في جيب قيصر الصليبي ما هو من أمر الله وخلقه وسلطانه سبحانه.
إنها عين المادة والعجينة التي صدرتها الكثير من البلاد العربية الإسلامية إلى الجامعات الغربية لتحصيل العلم والمعرفة والتقدم، فكان أن عادت العجينة بالعلمانية بديلا عن العلم متأبطة كراسات الأدب الماجن والاقتصاد الربوي، بل من العجينة من عاد يحمل دبلوما وشهادة عليا موضوعها دراسة دين الإسلام على ضوء نظريات رواد الإلحاد في البرامج التعليمية للجامعات الغربية، ولك ألا تستغرب بعد رحلة الشتاء والصيف تلك من ذلك الغبن الذي نالنا من هذا البيع الزائف والذي معه كان هذا الجيل المستنسخ جيل القنطرة ينظر بازدراء ويناظر باستكبار ويناقش بريبة وامتهان غايته السامية تشييع تاريخ وعقيدة وسلوك وفقه أسلافه لوأده في جبانة التاريخ ولحد النسيان، عربونا على إخلاصه ومحبته للذين كسوه كسوة الحداثة، وزينوا جيده بمشنقة ربطة العنق الأنيقة التي وضعوا عليها قبضتهم لسوقه عبر مراحل إلى سوق الإلحاد وبحور الإباحية والمجون.
وعلى مثل هكذا تربة وبمثل هكذا تخصيب وتخليط واجتزاء نبتت شجرة العلمانية الخبيثة ولا سبيل لاجتثاثها وهي التي لا قرار لها إلا بالعودة إلى محاضن جهاد الكلمة السواء، وانسياب مداد قلم الصدق في مسعى استئصال هذه النبتة الغريبة على ديننا ودنيانا، وليس ذلك بعزيز وليس هو بمستحيل، سيما وقد أظهرت التجربة المصرية ومع فارق المقاربة، إذ في محيطنا قد يكون الأمر سهلا يسيرا وذلك بطبيعة النظام الذي تنفك فيه إمارة المؤمنين التي نريدها أن تسود وتحكم وفق ضوابط الشرع عن سخائم العلمانية التي ليس لها في البيعة الشرعية عير ولا نفير، اللهم ما خلا بعض الانحناءات الزائفة المداهنة خوفا على مصالحها الدنيوية المحصلة، وخوفا على ضياع صيتها وكراسيها المتحققة، وخوفا من انكشاف تبعيتها العمياء لكل ما هو غريب عن ثقافتنا وعن هويتنا وعن طبيعة العقد التأسيسي لدولتنا المغربية.