إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت المسلمون والهوية الحضارية عبد اللطيف راحل

الحمد لله امتن بالهداية للإسلام، وجعل في سير الأولين موعظة وذكرى لأولي الأفهام، وحكم على كل أمر حادث بالفناء والانصرام، سبحانه!! جعل ذلك سنة ماضية في بناء الدوَل ونهضة الأنام، فلا تزال الدنيا تتقلّب بأهلها، وتتوالى نكباتها إلى أعيان قاطنيها منذ خلق الله الأرض ومن عليها، كلما جاءت أمة سعت إلى محو آثار سالفتها.
وأمتنا نالت بحظ وافر من المعاناة وصنوف المكايد والكبوات مما يعتصر منه الفؤاد كمدا، وتبيض العيون حزنا وأسفا، لكن العقلاء فيها كانوا بعد كلّ كبوة تعترضهم سرعان ما ينتفضوا ليواجهوا ما حل بهم من سوء، ويعالجوا ما أرقهم من عَيٍّ، لأن الضعف ليس من طبيعة دينهم، بل هو عنصر طارئ عليهم، فما أسرع انقشاعه للمتمسك بمبادئ العقيدة الراسخة المعتز برصيده التارخي الزاخر بالبطولات والمتلألئ بالانتصارات، فالجيل الأول من المسلمين مضى في مسيرته ماخرا عباب التاريخ قرونا متوالية، سجل خلالها عدة منازلات حضارية أُسقِطت فيها سائر الحضارات السابقة صريعة أمام حضارة الإسلام الخالدة، تلك الحضارة التي كانت وستبقى صرحا منيفا لا تزال أيدي المخلصين تسهم في بنائه بما يزيده شموخا وكمالاً. على أنه قد ينتاب هذا الصرح في بعض أطواره ما يقوض أركانه ويصيب بالخمول هِمَّة بُناتِه، ولله ذر القائل:
لكل شيء إذا ما تم نقصان *** فلا يغر بطيب العيش إنسان
لقد طفا على سطح الأحداث غريم حضاريّ في مطلع القرن التاسع عشر على حين غفلة من الأمة، فدعاها إلى ساحة النزال، ولم يجرؤ على ذلك إلا بعد إدراكه التام أنه لن يستطيع الغلبة عليها ماديا أو عسكريّاً ما دام يقاتلها بوصفها أمّة إسلامية. لكنه عقد العزم وجمع الأمر بتغيير أسلوب المواجهة، فرَاشَ سهامه المسمومة وراح يرشق بها، يهاجم الإسلام وحضارته وأحكامه وأنظمته ونمط عيشه، في محاولات متوالية لغرس الشك والريبة في ثقة المسلم بنفسه وأمته وعقيدته وبسلفه الصالح، مع الحرص على تدمير الحسِّ الإسلامي لديه وإفساد شخصيته وجعله أكثر خضوعاً وأشد افتقارا إلى القدرة الروحية اللازمة للمقاومة.
امتطى العدو صهوة جواده مهاجما بعد بري سلاحه وإعداد عدته، وبقيت أمتنا الإسلامية ملازمة خط الدفاع بسلاح قد عضه التصوف بأنياب التواكل، ومقاتلين قد أخذ منهم التعصب المذهبي والانتماء الطائفي كل مأخذ، عوامل أعدمت في أفراد الأمة الحيويّة الفكريّة، والقدرة على الإبداع، فآثروا البقاء عالة على تراث الماضين دون محاولة للتجديد أو الإصلاح، اللهم إلا بقايا استمسكوا بكتاب ربهم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ونهج السلف الأولين، فهم أهل الحل والعقد، وهم أهل الخبرة والشرف، تحررت عقولهم من العبودية إلا لله، وبسلوك طرق الاجتهاد استنارت بصائرهم، فبرز منهم مجددون ودعاة مصلحون عقد الله النصر على ألويتهم فقادوا الأمة حتى أوشكت على كسب الجولة، غير أن فضائلهم كانت تحسب عليهم لا لهم، وكانت تنسج لهم الأكفان بدل أن ترفع لهم الرايات -والويل كل الويل لأمة يمكَّنُ فيها للتافهين ويخزى فيها المقتدرون- .
تلك إذن هي الأدواء الكامنة والأمراض المزمنة التي لازمت الأمة، فما برحت أن خارت قواها واستسلمت لتجارب العدو، مما نتج عنه قيام نظام تعليمي علماني يلقن القيم والمناهج الغربية، وسرعان ما بدا هذا النظام وكأنه شلال يرمي في نهر المجتمع الإسلامي ناشئةً من الخرِّيجين تجهل دينها، ثم لا يزال بها الجهل حتى تعاديه، وقديما قالوا من جهل شيئا عاداه، وقد صاحب هذا الجهل شك وتردد ممن نصبوا أنفسهم أوصياء على التراث وحُماةً للشريعة، أعني بعض أرباب الطوائف الذين فشا فيهم التصوف الخرافي فجعلهم طرائق قددا وأحزابا وفرقا، كل حزب بما لديهم فرحون، نشروا في الأمة حلق الذكر الصوفي كبديل عن حلق العلم والمعرفة، وهي حلق تستوعب طاقة المسلم الروحية فتصرفها عن كل معاني المقاومة والممانعة ضد العدو المتربص، وفي النهاية تتحول تلك الطاقة إلى مجرد همهمات وتمتمات تجعل الفرد أقرب إلى المخدَّر منه إلى صاحب الوعي الحيّ، فكانت النتيجة أن عمت الخرافة وتعلق العامة بالخوارق المتوهمة والكرامات المنسوبة إلى المشايخ والمقدَّمين، الأحياء منهم والميتين، وأُهملت العلوم الكونية وعمارة الأرض والأخذ بأسباب التمكين التي أمر بها الإسلام.
وجاء دور الاستبداد السياسي ليجعل الناس ينصرفون إلى خاصة أنفسهم ويتركون الانشغال بالقضايا العامة التي تقرر مصير أمتهم، وأصبح الدين كله في نظر الساسة وعلية القوم مجرد طقوس وشعائر تعبدية تُرعى لذاتها لكنها خاوية من الروح، فاستبيحت المُحرَّمات وانتهكت الحدود وعطِّلت الشريعة، وحل محلها القانون الوضعي الذي يخدم بالدرجة الأولى مصالح واضعيه، وتفككت أواصر الإخاء والمحبة التي كانت تربط بين أفراد الأمة، فدبَّ فيها الوهن، ونما في حسها خشاش الذل والهوان والتملق والمداهنة، وعمها الركود والجمود، وغطَّت في سبات عميق لم تستيقظ منه إلا وهي فاقدة لهويّتها، لتصبح مسلوبة الشخصية منزوعة الهيبة من صدور الأعداء، فلا اعتبار لها بين الأمم ولا يُحسب لها أي حساب، لأنها لزمت طريق العدو وسارت على دربه تقتفي أثره، ثم هي تستورد تجاربه البالية وتستهلك أنظمته المأفونة، ولا تجد ما تصدِّره إليه.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: “لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم، قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!” متفق عليه.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *