المغرب والحرب الفرنكفونية

 لمحة تاريخية:

في أواخر الستينات، وخاصة بعد إعادة انتخاب “الجنرال ديجول” رئيساً لفرنسا للفترة الثانية في 5/12/ 1966م بعد أن كانت حركات التحرر والاستقلال تتقوى من مختلف الدول التي كانت تخضع للاستعمار الفرنسي في إفريقيا وآسيا، ركز “ديجول” سياسة فرنسا على المحاور الآتية:

  1. تثبيت الاقتصاد الفرنسي.
  2. التقارب مع ألمانيا للتخلص من النفوذ الأمريكي.
  3. إبعاد بريطانيا من السوق الأوروبية المشتركة.
  4. دخول فرنسا ميدان الإنتاج الذري.

فلا غرابة إذن أن يختفي المستعمر الفرنسي خلف الستار بعد استقلالات الستينات ليحرك بأصابعه من خلف الكواليس أناساً قد أحكم صبغتهم ، يتشدقون بقيم الاستعمار الجديد وثقافته، ويتعهدون بنبذ الثقافات الوطنية والقيم الدينية الأصيلة وراء الظهور فكانت الفرنكوفونية وسيلة من وسائل الاستعمار الجديد، اتخذتها فرنسا للضغط على مجموعة من الدول النامية وتوجيه سياستها. كانت فرنسا تتظاهر بالانعزال عن فكرة تأسيس منظمة الفرنكفونية في أوائل انبثاق الفكرة سنة 1960م لعاملين رئيسَيْن:

الأول: شعورها بالعار من جراء الجرائم البشعة التي ارتكبتها ضد الشعوب في عهد الاستعمار.

الثاني: تخوفها من أن تتهم بمحاولة استخدام اللغة الفرنسية كأداة جديدة للإمبريالية والسيطرة على الدول التي فقدتها منذ عهد قريب، فمن المعلوم تاريخياً أن الدول التي تعتبر مهد اللغة الفرنسية ومنبعها الأصيل مثل فرنسا وبلجيكا وكيبيك ليست هي التي دعت علناً إلى تأسيس منظمة الفرنكفونية، ولكنها كانت تحرك الحبال من خلف الستار.

وقد برز من بين المتشدقين بالفرنكفونية كل من العلماني الحاقد “الحبيب بورقيبة” من تونس و “شارل حلو” من لبنان و “نورو دوم سيهانوك” من كامبودجيا وغيرهم. لقد لقيت دعوة هؤلاء في بداية أمرها مقاومة عنيفة من قبل قادة التحرر الوطني في إفريقيا وآسيا، الذين كانوا يَصِفون دعاة الفرنكوفونية بالخونة، مما أخر تنظيم الحركة رسمياً وهيكلتها حتى عام 1970م حيث أنشئ أول فرع من فروعها المتخصصة وهو “TCCA” (وكالة التعاون الثقافي والتقني) في (نيامي) عاصمة النيجر. في 16 يونيو 1921م أصدر المارشال “ليوطي” أول مقيم عام فرنسي بالمغرب إلى رؤساء المناطق المدنية والعسكرية التعليمات التالية:

“..إن العربية هي عامل من عوامل نشر الإسلام، لأن هذه اللغة يتم تعلمها بواسطة القرآن، بينما تقتضي مصلحتنا أن نطور البربر خارج إطار الإسلام، ومن الناحية اللغوية، علينا أن نعمل على الانتقال مباشرة من البربرية إلى الفرنسية..”.

وقد نشرها “بول مارتي” في كتابه (مغرب الغد) الصادر بباريس سنة 1925م، وشرحها موضحا: “..إن كل تعليم للعربية، وكل تدخل من الفقيه، وكل وجود إسلامي، سوف يتم إبعاده بكل قوة، وبذلك نجذب إلينا الأطفال “الشلوح” عن طريق مدرستنا وحدها، ونبعد متعمدين كل مرحلة من مراحل نشر الإسلام..”. وهذا ما يفسر عزوف المجاهدين المقاومين وكل الشعب المغربي عن إرسال أولادهم للتعلم في مدارس المستعمر.

بعد عشر سنوات، جاءت فرنسا بالظهير البربري سنة 1930م، لعزل البربر عن الإسلام، وتمزيق وحدة الشعب والدولة المغربية، فاصطدمت باثني عشر قرنا من تاريخ هذه الوحدة، التي بناها الإسلام فعلا بالقرآن:” إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ”. لكن الحرب الفرنكفونية ضد الإسلام و اللغة العربية، التي أعلنها مؤسس اللفرنكفونية “أونسيم ركلو” سنة 1889م، ستعرف أعظم انتصاراتها بعد استقلال المغرب مع الجيل المتفرنس، وخلال أربعين عاما الماضية، خضعت الأجيال الجديدة لغسل مكونات شخصيتها وهويتها الدينية و الثقافية و التاريخية، ليصبح المغرب معها نموذجا متميزا لظاهرة سقوط العالم العربي المعاصر، وَصَفه مدير صحيفة أسبوعية بأنه: “أكثر الدول ارتشاء وفسادا، والأكثر طبقية، والأكثر تفسخا”. وعندما أعلن برنامج الأمم المتحدة للتنمية البشرية أن المغرب يصنف في المرتبة 125 بين دول العالم، لم يَحمَرَّ وجه أحد من السياسيين أو المثقفين أو المسؤولين خجلا وأسفا، بل لم يتساءل أحد منهم ولا من مراكزهم الثقافية والسياسية: كيف حدث هذا؟ ومتى؟ومن المسؤول عنه؟

تغريب التعليم المغربي

هذه اللمحة السريعة عن تاريخ المحاولات الفرنسية لفرنسة الدول الأجنبية عن فرنسا، تؤكد لنا أن فرنسا لم تتخل قط عن سياستها هذه رغم انهيار إمبراطوريتها الاستعمارية، بل هي تجد في استمرار هذه السياسة، التي تضمنت وجودها اللغوي والثقافي في مستعمراتها ومحمياتها الإفريقية السابقة، خير عزاء لها عن فقدان هذه الإمبراطورية، فهذا الوجود اللغوي يضمن لها تلقائيا استمرار نفوذها السياسي والاقتصادي في هذه الأقطار، وفي رأي أحد الزعماء الوطنيين أن فرنسة المغرب المستقل تمثل نوعا من التشفي الذي يمارسه الاستعمار الجديد ضد الشعوب التي حصلت على استقلالها السياسي عنه.

والخطير في الأمر أن عملية فرنسة المغرب ظلت تسير بخطى حثيثة رغم إرادة الشعب المغربي، فقد وقع إحكامها وتعميمها وتشجيعها، فلم تقتصر على وسائل الإعلام كلها، أو على الإدارة المغربية كلها، أو على الإعلانات وأسماء الشوارع فقط، وإنما استهدفت بصفة أخص، فرنسة الأجيال الناشئة باسم التعليم، فسلكت في هذا الميدان اتجاهين طبقيين متكاملين يمثلان صورة المغرب المتفرنس “المستقل”، الذي يحلم الاستعمار الجديد بأن يحل محل المغرب الفرنسي المحمي:

الأول: يتمثل في مدارس البعثة الفرنسية حيث تجري عملية فرنسة أبناء الطبقة البورجوازية لغة وفكرا وعاطفة، وإعدادها للتعليم العالي لكي تتسلم الأعمال الكبرى والمناصب العليا في الإدارة المغربية، وتلعب دورها الذي هيئت له في التنكر والعداء للحضارة العربية الإسلامية، ومحاولة ربط المغرب إلى الأبد بمصالح الغرب الاستعمارية ودعم “البورجوازية” المغربية الجديدة بإطارات قيادية صالحة لتكون صلة وصل بين الاستعمار القديم والاستعمار الجديد.

الثاني: يتمثل في التعليم الرسمي العمومي وهو الخاص بأبناء الشعب الذين تجري عملية فرنستهم بنسبة 33% في الابتدائي، و66% في الثانوي، والذين يحصلون منهم على الباكلوريا نسبة قليلة جدا، لأن دورهم في المغرب المتفرنس ينحصر في أن يكونوا أعوانا للرؤساء في المكاتب الإدارية، وعملة ومساعدين في الخدمات العامة، إذا ساعدهم الحظ في الحصول على عمل، لذالك يجب أن يتقنوا اللغة الأجنبية التي هي لغة الإدارة الحكومية، ولغة الأعمال والمصالح العامة، والتي قد تصبح اللغة الرسمية أيضا، بعد أن تكون نسبة الناطقين بها قد ارتفعت بين الشعب، بحيث يستحيل حينئذ التخلي عنها، أو إحلال العربية محلها.

وإذا كان الكثيرون يتسابقون لتسجيل أبنائهم في مدارس البعثة الفرنسية فرارا من مدارس الحكومة -وليس في هذا أي شرف للحكومةــ فليس ذالك لمحبتهم في التفرنس، ولكن لأنهم يخشون المصير التعس الذي ينتظر أبناءهم..، وليس في هذه أي حجة لأولئك الذين يتخذونها في كل مناسبة حجتهم الكبرى على أن الشعب يهيم حبا بالفرنسية، ولا يبغي بها بديلا، دون أن ينتهوا إلى أنهم بهذا الموقف إنما يؤكدون إفلاس التعليم الحكومي، ذلك أن المواطن الصالح لا يمكن أن يتخلى عن بضاعته الوطنية إلى البضاعة الأجنبية إلا إذا كانت رديئة الإنتاج.

وعندما اندلعت إضرابات المدارس الثانوية في المغرب في شهر ماي 1970م، وتلتها إضرابات جميع كليات الجامعة، تلك الإضرابات الخطيرة التي أقيل على إثرها وزير التعليم العالي، وعين وزير الأول محله، والذي أعلن بأنه مستعد لفتح في حوار مع الطلبة لحل جمع مشاكلهم عندما حدث كل ذلك، وعندما نظمت الدولة مناظرة إفران لهذا الغرض، كان هذا يعني أن الوعي بأخطار السياسة الفرنسية قد بلغ درجة الخطورة بالنسبة للدولة، فلم تعد النخبة هي التي تعي هذ الأخطار، ولكن الطلبة والتلاميذ والآباء ورجال التعليم جميعا أصبحوا يدركون أن سياسة فرنسة التعليم يستحيل معها تكـوين الأطر المغربية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يرجع للاستزادة لمعرفة موقف العلماء والمثقفين والأساتذة إلى: كتاب “مواقف وآراء علماء المغرب من التأسيس 1960م إلى المؤتمر العاشر 1987م” للأمين العام لرابطة علماء المغرب سابقا الحاج أحمد بن شقرون رحمه الله، وكتاب “ثمانون عاما من الحرب الفرنكفونية ضد الإسلام واللغة العربية” للدكتور إدريس الكتاني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *