أوجه الاجتماع والافتراق بين البدعة والمصلحة المرسلة

المصالح الشرعية لا تتميز عن غيرها من المحدثات إلا بطريق الشرع الحكيم، لا غير، وقد اختلطت أحكام المصالح بالابتداع اختلاطا كبيرا على كثير من المنتسبين للعلم، مما جعلهم يطلقون على كثير من البدع المحدثة أنها “مصالح”، أو يعدونها من باب “المصالح المرسلة”!

وإذ كان الأمر كذلك، فلا بد من إيضاح القول فيها والكشف عن خوافيها، فأقول:
كثيرة هي الأمور التي يحدثها الناس في دينهم، كما قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود: “أيها الناس! إنكم ستحدثون ويحدث لكم..” سنن الدارمي، وصححه الحافظ في الفتح، فما هو المنهج الواضح والحد الفاصل الذي يدفع الخلط بين البدع وبين ما كان فيه مصالح المسلمين؟ (علم أصول البدع ص226).
وجوه اجتماع البدعة والمصلحة المرسلة
– أن كلا من البدعة والمصلحة المرسلة مما لم يعهد وقوعه في عصر النبوة، ولا سيما المصالح المرسلة، وهو الغالب في البدع إلا أنه ربما وجدت بعض البدع -وهذا قليل- في عصره صلى الله عليه وسلم؛ كما ورد ذلك في قصة النفر الثلاثة الذين جاءوا يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم.
– أن كلا من البدعة -في الغالب- والمصلحة المرسلة خال عن الدليل الخاص المعين، إذ الأدلة العامة المطلقة هي غاية ما يمكن الاستدلال به فيهما.

وجوه الافتراق بين البدعة والمصلحة المرسلة
– تنفرد البدعة في أنها لا تكون إلا في الأمور التعبدية، وما يلتحق بها من أمور الدين بخلاف المصلحة المرسلة؛ فإن عامة النظر فيها إنما هو فيما عقل معناه، وجرى على المناسبات المعقولة التي إذا عُرضت على العقول تلقتها بالقبول فلا مدخل لها في التعبدات، ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية.
– وتنفرد البدعة بكونها مقصودة بالقصد الأول لدى أصحابها، فهم -في الغالب- يتقربون إلى الله بفعلها، ولا يحيدون عنها، فيبعد جدًا -عند أرباب البدع- إهدار العمل بها؛ إذ يرون بدعتهم راجحة على كل ما يعارضها، بخلاف المصلحة المرسلة؛ فإنها مقصودة بالقصد الثاني دون الأول، فهي تدخل تحت باب الوسائل؛ لأنها إنما شرعت لأجل التوسل بها إلى تحقيق مقصد من مقاصد الشريعة، ويدل على ذلك أن هذه المصلحة يسقط اعتبارها، والالتفات إليها شرعًا متى عورضت بمفسدة أربى منها، وحينئذٍ فمن غير الممكن إحداث البدع من جهة المصالح المرسلة.
– وتنفرد البدعة بأنها تؤول إلى التشديد على المكلفين؛ وزيادة الحرج عليهم، بخلاف المصلحة المرسلة؛ فإنها تعود بالتخفيف على المكلفين، ورفع الحرج عنهم، أو إلى حفظ أمر ضروري لهم.
– وتنفرد البدعة بكونها مناقضة لمقاصد الشريعة، هادمة لها، بخلاف المصلحة المرسلة؛ فإنها -لكي تعتبر شرعًا- لا بد أن تندرج تحت مقاصد الشريعة، وأن تكون خادمة لها، وإلا لم تعتبر.
– وتنفرد المصلحة المرسلة بأن عدم وقوعها في عصر النبوة إنما كان لأجل انتفاء المقتضي لفعلها، أو أن المقتضي لفعلها قائم لكن وجد مانع يمنع منه، بخلاف البدعة فإن عدم وقوعها في عهد النبوة كان مع قيام المقتضي لفعلها، وتوفر الداعي، وانتفاء المانع.
والحاصل: أن المصالح المرسلة إذا روعيت شروطها كانت مضادة للبدع، مباينة لها، وامتنع جريان الابتداع من جهة المصلحة المرسلة؛ لأنها -والحالة كذلك- يسقط اعتبارها ولا تسمى إذ ذاك مصلحة مرسلة، بل تسمى إما مصلحة ملغاة أو مفسدة. (الاعتصام للشاطبي وقواعد معرفة البدع للجيزاني).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *