دعوها فإنها منتنة بقلم: إبراهيم أنفلوس

من المقرر عند ذوي الثقافة والمعرفة أن التاريخ يعود، وأن حوادث الدهور ترجع وتتكرر، والعقول السديدة السليمة تستفيد مما يسطر في صفحات التاريخ من أحداث، وتعتبر بما تنقشه الوقائع على ألواح الزمان، ولابد للإنسان -حتى لا يكون غبيا ومغفلا- أن يتخذ ما يمر من الوقائع عليه أو على غيره عبرة وتجربة تفيده في مواقف مماثلة في حياته، ويسلك الخطة التي ينبغي سلوكها لو عادت الكرّة، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من وعظ بنفسه، وأحسن من ذلك قول سيد البشر عليه الصلاة والسلام: “لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين”.
وليس ببعيد ما ابتلي به المغاربة منذ بداية عهد الحماية، ذلكم الابتلاء هو ما نصبه المستعمر الفرنسي من شراك التفرقة والتشتيت بين أفراد المجتمع المغربي، وأسموه بالظهير البربري رجاء أن يخترق صف المجاهدين والمناضلين، إلا أنه باء بالخسران والفشل، حيث فطن لخداعه أجدادنا وعلموا أنما هي سياسة لتفريق جموعهم وإذهاب ريحهم؛ حيث غرروا البرابرة أنهم أهل البلد الأصليون، ووسوسوا للعرب أنهم هم الذين أنقذوا البربر من قيد الأمية وأكبال الجهالة، قاصدين بذلك تحريش بعض القوم على بعض، ليتأتى لهم أخذ الغنائم باردة..
وقد مرت على ذلك نحو من سبعين سنة، وهاهي الكرة تعاد، لكن هذه المرة دون سلاح ولا احتلال، وبدون قوة ولا ظهير، وإنما بواسطة أيد غامضة أثارت الموضوع، وصاحت به أصوات أناس من أبناء جلدتنا، ورفعوا أعلام التفرق وزعزعة الوحدة الوطنية، من تهييج همم شريحة البربر على التعصب، تحت غطاء نيل الحقوق المهضومة، وتحت شعار رد الاعتبار. وهذا الذي يحدث ويعود، إنما هي تمثيلية ترجع لتعرض نفسها بأسلوب جديد فتان، وفي فستان آخر مغري، وفي قالب معاصر مثقف، لتفتن وتغر من خفت ديانته، وقلّت في العلم بضاعته، وخوت من دراسة تاريخه جعبته.. فزعم هذا المخطط أنه دفاع وذب عن هذه الشريحة الأمازيغية، وما أحراه أن يكون حمية جاهلية، وسورا عرقيا أراد أن يفصل بين شرائح مجتمعنا، وأن يقسم مغربنا.
التعصب الطائفي سبب الضعف والخذلان
لئن هُيّء لهذه الشجرة الجو في تربية عروشها، وتعميق جذورها، واستجاب لها المجتمع المغربي، وأعطيت متطلباتها، فإنما تظفر بذلك على حساب تبديد مجتمعٍ طالما سالت دماء أجدادنا من أجل حريته واستقلاله، وظلوا يذبون عن وحدته وائتلافه، ويحرصون على كلاءة بيضته، ويستأصلون الطفيليات التي تحاول تفريقه منذ أن شمّ رائحة الاستقلال، ورحلت عنه عواصف الاحتلال.
لذلك فليعلم أنه من سعى في بثّ روح العصبية في أمتنا، وفي إحياء هذه الجاهلية بينهم، فإنما يحاول زعزعة وحدتهم الوطنية ومن ثم الدينية، ويحاول تفريق المسلمين وإضعاف قوتهم، وإذهاب ريحهم، ولا شك أن صاحب هذا الفعل متوعد من الله بالعذاب والنكال في الآخرة، قال تعالى مبرئا نبيه من هذا النوع البشري: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء) وقال: (ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا)، فالقوة كل القوة في الاجتماع والاتحاد، وإلى هذا المعنى الفريد أشار العزيز الحميد سبحانه بقوله: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)
وإنه لمن المصيبة العظيمة، والداهية الجسيمة أن يخلّى دعاة التعصب البربري بينهم وبين ما يشتهون، وملف الصحراء لم يُصَفَّ بعد، ولم تنته مشكلته، فهؤلاء اليوم يطالبون بالانقسام، ويجرون وراء قطع الصلة عن البلد الأصلي، فإنه يوشك أن يقوم من يتزعم هذه الدعوة العصبية البربرية، فيعق بلده، ويطالب بدوره بالانفصال والاستقلال ويدعو إلى ذلك، ثم بعد غد تظهر فرقة أخرى تطالب بالمطالب نفسها، ثم يصير مغربنا حين ذاك إلى التفكك والاندثار. ألا ينبغي أن نتخذ العبر مما يجري ويقع الآن؟ ألا يجذر بنا أن نتلقن الدروس ونعمل بمقتضاها؟ فحري بنا أن نتعلم ونستفيد، فإن دروس الزمان، وتجارب الحياة تكاد لا تخطئ.
إن الدين الذي ندين الله به -عربا وأمازيغ- هو الدين الإسلامي، دين الحق الذي أنزله الله ولم يرتض بعده غيره، فالمسلمون ربهم واحد، ودينهم واحد، ونبيهم واحد، وكتابهم واحد، وقبلتهم واحدة،(وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)، وما دمنا على هذا المبدأ معشر المغاربة متأصلين، وبه مستمسكين؛ فلن تؤثر عواصف الفتن في جدار وحدتنا.
لذلك فأدعو كل المغاربة أحمرهم وأسودهم، وأبيضهم وأصفرهم، بربرهم وعربهم أن يكونوا صفا واحدا، صامدين أمام ما يثار من رياح هذه الفتنة، ولا ينبغي أن تغرّ إخواننا الأمازيغيين هذه الدعوة الجاهلية بأن توفر لهم كذا وكذا من الحقوق، فحقوقهم حقوق كل مغربي مسلم، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والإيمان، والمسلمون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ذمتهم واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، “وعنه ( قال: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده» رواه أحمد وأبو داود وغيرهما من أهل السنن. فقضى رسول الله ) أن المسلمين تتكافأ دماؤهم، أي: تتساوى وتتعادل، فلا يفضل عربي على عجمي، ولا قرشي أو هاشمي على غيره من المسلمين، ولا حر أصلي على مولى عتيق، ولا عالم أو أمير على أمّي أو مأمور. وهذا متفق عليه بين المسلمين، بخلاف ما كان عليه أهل الجاهلية وحكام اليهود”.

التعصب الطائفي وحرب الأعداء
مما لاشك فيه أن وراء هذه الزوبعة جهات من خارج الوطن إتخذت لها أداة حفنة من العلمانيين، لا يعبؤون بدين الله ولا تهمهم مخالفته، بل يحاربونه بالليل والنهار، ويستهزؤون بأهله، ويسخرون من حملته (يريدون أن يطفؤوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) فهؤلاء أرادوا أن يقطعوا إلى غنيمة مصالحهم عبر قنطرة هي أناس سذج لا يعرفون ما يراد بهم.
صوِّرت لهم هذه النزعة المنتنة نضالا من أجل حقوقهم وهي في حقيقتها سُمّ في وصفة دواء دسها الحاسدون والحاقدون إلى أبناء بلدنا مستغلين صرعى الأمية الدينية والجهل بالتاريخ، ومن أنهكته المشاكل والفقر، وهم يتوخون من خلاله أن يفرقوا وحدة بلادنا ويخلخلوا أمنه، فاستعملوا من لا يفقه من الناس، واستغلوا من يدعي الفهم والثقافة ممن همه قضاء أربه ومصالحه الشخصية.
إن الكفار لا يفتؤون ينشبون بين الدول الإسلامية بنشاب العداء، فمذ خرج الاحتلال الفرنسي ووقود الفتنة بين الجزائر والمغرب في أيدي أعدائنا، ولو فتشت الآن، وتأملت بعين بصيرتك في الفتن التي وقعت بين المسلمين، والأحداث التي لم تزل تقع إلى الآن، إلا وجدت أن الكفار هم الذين ينفثون فيها ويوقدون نارها عبر أنابيب المنافقين، فالرأس في بلاد الكفر، وذيله في بلاد الإسلام يحركه بالفتنة كيف يشاء. وليس بخاف عليك ما يقع في العراق، فإن الأمريكيين يستغلون الخلاف بين الشيعة الروافض، وبين أهل السنة، فينتهز الروافض الفرصة لتطبيق مخطط حقدهم الدفين، فيقتلون أهل السنة ويعذبونهم، ويفعلون بهم ما لا يخطر بالبال، ولا يحيط بعلمه إلا الله، وإخوانهم من الأمريكيين يمدونهم بالسلاح ولا يقصرون. فكل خلاف بين المسلمين إلا وهو ورقة رابحة في أيدي الكفرة، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
المسلم العربي أخو المسلم الأمازيغي
فالمسلم كيفما كان عرقه أو لونه بإسلامه يصبح أخا للمسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه، هكذا يؤسس قائد الأمة جيل هذه الأمة الأول، ويحيي فيه روح الإخاء، فهل بقي بعد هذه الحقوق شيء؟ ثم نجده في موطن آخر من مواطن تعليمه وتربيته، وموقف من مواقف إرشاده يقول لاثنين من الصحابة أحدهما أنصاري والآخر مهاجري وقد وقع بينهما ما وقع فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، يستغيثان بأقوامهما، فانتهض للتقويم من جاء ليتمم محاسن الأخلاق فقال صلى الله عليه وسلم: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! دعوها فإنها منتنة» فأين هذه التعاليم السامية يا إخواننا؟ وأين غابت عنكم؟ أم هل عاد الاحتلال؟!
إن نتيجة غياب هذه التعاليم النبوية، وهذه الإرشادات الربانية؛ هو ما نراه اليوم من رفع رايات العصبية كيفما كان نوعها، وإعلاء أعلام التفرقة بين الأمة. ولْيَقِس المسلم اللبيب، والأخ الحبيب، على هذا القاعدة النبوية، ولْيحكم على كل شعار غير شعار الإسلام، من شعارات الأحزاب واللغات والعرقيات والجنسيات وغيرها بالدعوى النتنة دعوى الجاهلية.
وعلى جميع المسلمين -عربا وعجما- أن يرجعوا إلى اللغة العربية وتعلمها، وحفظها عن كل لحن ودخيل، فهي لغة القرآن، ولغة السنة، وليست العربية حكراً على أحد حتى يستنكف أحد عن الكلام بها، وقد أنزل الله بها كتابه (لسانا عربيا غير ذي عوج) ولا يعني هذا أن نحتقر لسان طائفة منا، أو نحاربه.
وأنا إذ أقرر هذا؛ أتبرأ كل التبرؤ أن أقصد تحريك غلٍّ أو حقد، أو أحرش بعض القوم على بعض، وأعوذ بالله أن أتكلم من منبر شعوبي، أو من زاوية قومية، بل القصد –والله يشهد- دعوة الكل إلى التلاحم والترابط على اختلاف اللغات والألسن، وعلى تنوع العرق واللون إلى تجاوز هذه الامتيازات، وتحطيم هذه الحدودات؛ فإن ديننا يسعنا أجمعين.

فاللهم احفظ بلدنا، وارزق أهله من الثمرات، ووفقهم لما فيه رضاك. وقِهم كل عدو حاسد، واكفهم كل منافق دخيل حاقد، اللهم أصلح دنياهم وآخرتهم.
آمين آمين لا أرضى بواحدة  *** حتى أضيف لها آلاف آمينا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] مجموع الفتاوى (28-376).