انطلق المذهب المالكي من رحاب المدينة النبوية، وهي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي فيها ترددت أنفاسه الزكية، فناهيك بها من موطن طاهر زاهر، فحدث عنها ولا حرج، فهي مركز الشرع ومقر الحكومة الإسلامية في عهد النبوة، وعهد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، كما اختصت بالمكانة العلمية المرموقة، فهي مهد السنن ومجمع الرعيل الأول من الصحابة والتابعين، ولذلك لم يبغ بها الإمام مالك رحمه الله بدَلا، بل لازمها في طلبه للعلم حتى أصبح يلقب بإمام دار الهجرة وعالم المدينة بلا منازع (1).
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “لا ريب عند أحد أن مالكا رضي الله عنه أقوم الناس بمذهب أهل المدينة رواية ورأيا، فإنه لم يكن في عصره ولا بعده أقوم بذلك منه” الفتاوي 20/320.
الحديث والفقه في عصر مالك رحمه الله
لم يكن علم الحديث قد تميز تميزا كاملا عن الفقه في عصر الإمام مالك بل كانا مختلطين، فالفقيه يروي الأحاديث التي يبني عليها استنباطه فيكون محدثا بما يرويه وفقيها بما يستنبطه(2)، بيد أن بعض الفقهاء كان يغلب عليهم الإفتاء، والبعض الآخر تغلب عليهم الرواية، على أن هذا الإنفصال لم يكن قد تم على وجه كامل في عهد الإمام مالك رحمه الله، وقد كان الإمام مالك رحمه الله من القلة الذين اجتمعت فيهم صفتي الفقه والحديث بقدر كامل، ويكاد يكون متساويا، فجمع رحمه الله بين الإمامة في الحديث والإمامة في الفقه.
قال الإمام أحمد رحمه الله: “مالك سيد من سادات أهل العلم، وهو إمام في الحديث والفقه، ومن مثل مالك؟ متبع لآثار من مضى مع عقل وأدب” ترتيب المدارك 11/155.
وكما مرت الإشارة إلى ذلك كانت المدينة منبع الحديث وملتقى الصحابة، وكان أهلها من أثبت الناس في الفقه وأشدهم تمسكا بالحديث، وأحرصهم وقوفا عند الآثار فلم يعرفوا بالإشتغال بالرأي إلا إيماء أو اقتضاء.
ومن شيوخها الأوائل ابن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، وقد تأثر بمنهجهم تلاميذهم الذين حملوا لواء الحديث والفقه بهذه المدرسة: كابن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وزيد بن خارجة، وهؤلاء هم الفقهاء السبعة، وقد جمعهم الناظم في قوله:
إذا قيل في العلم سبعة أبحر *** روايتهم ليست عن العلم خارجة
فقل هم عبيد الله عروة قاسم *** سعيد أبو بكر سليمان خارجة
الصلة الوثيقة بين الإمام مالك والسلف الصالح
وقد آل علم المدينة إلى الإمام مالك رحمه الله عن طريق فقهائها السبعة(3) الذين هم شيوخه وهم بدورهم تتلمذوا في مدرسة جمع من الصحابة وعلى رأسهم عبد الله بن مسعود، زيد بن ثابت، عبد الله بن عمر، عبد الله بن عباس رضي الله عنهم.
قال ابن القيم رحمه الله: “والدين والفقه والعلم انتشر في الأمة عن أصحاب ابن مسعود، وأصحاب زيد بن ثابت، وأصحاب عبد الله بن عمر، وأصحاب عبد الله بن عباس، فعلم الناس عامته عن اصحاب هؤلاء الأربعة” إعلام الموقعين 1/21.
ومع أخذ الفقهاء السبعة العلم عن ثلة من السلف إلا أن أثر ابن عمر رضي الله عنه كبير فيهم.
قال الإمام مالك رحمه الله: “كان إمام الناس عندنا بعد زيد بن ثابت عبد الله بن عمر مكث ستين سنة يفتي الناس” أخرجه الفسوي في تاريخه، وانظر السير 3/221.
وقد روى ابن عمر رضي الله عنه علما كثيرا عن النبي عليه الصلاة والسلام وعن جمع من الصحابة(4) خاصة عن عمر رضي الله عنه، ولا غرابة في ذلك لأنه كان ابنا له كما لا يخفى.
أورد القاضي عياض عن حميد بن الأسود أنه قال: “كان إمام الناس عندنا بعد عمر زيد بن ثابت، وبعده عبد الله بن عمر.
قال علي بن المدني: وأخذ عن زيد ممن كان يتبع رأيه أحد وعشرون رجلا، ثم صار علم هؤلاء إلى ثلاثة: ابن شهاب، وبكير بن عبد الله، وأبي الزناد.
وصار علم هؤلاء كلهم إلى مالك بن أنس” ترتيب المدارك 1/77 و159.
ولأجل هذه السلسلة الطيبة نص بعض أهل العلم على وجه التقارب في الجملة بين طريقة الإمام مالك ونهج عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قال ابن المديني رحمه الله: “كان مالك يذهب لقول سليمان بن يسار، وسليمان يذهب لقول عمر بن الخطاب رضي اله عنه، فمذهب مالك إذن مذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه” أقرب المسالك إلى موطأ الإمام مالك 21.
قال بعضهم:
فمالك على طريقة عمر *** والشافعي على أبي بكر الأبر
كذا على عثمان نجل حنبل *** ثم أبو حنيفة على علي
دليل السالك إلى موطأ مالك لابن مايابي الجكني 112.
وقال بعضهم:
فمالك على طريقة عمر *** والشافعي على أبي بكر الأغر
أبو حنيفة لعثمان ولي *** وأحمد بن حنبل على علي
أقرب المسالك إلى موطأ الإمام مالك 21.
وبه الإخبار بموصول الوشائج ومتين العرى بين الإمام مالك رحمه الله وبين السلف الأبرار، فهل كان إمامنا مالك رحمه الله رجعيا، وظلاميا.. كما يعير بنو علمان بذلك أتباع الصحابة الأخيار؟!!
والله المستعان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- قال القاضي عبد الوهاب عن الإمام مالك: “لم يشتهر بعالم المدينة من الأئمة غيره، فهم لا ينازعونه في هذه المزية وهو رضي الله عنه إمام الأئمة وشيخهم” نقلا عن أقرب المسالك إلى موطأ الإمام مالك 19.
2- قال ابن الجوزي رحمه الله: “كان الفقهاء قديم الزمان هم أهل القرآن والحديث” تلبيس إبليس 127، منتقاه.
3- وكان عميدهم سعيد بن المسيب رحمه الله.
قال ابن حزم رحمه الله: “سعيد بن المسيب عميد أهل المدينة” الإحكام 5/715.
4- انظر السير للذهبي 3/204.