من أعظم الجنايات سدل أردية النسيان على أخبار وآثار السادة العلماء الأحرار؛ الذين لو استُنطِق التاريخ لنطق بمفاخرهم وبطولاتهم في باب الدعوة والإصلاح؛ ومن هؤلاء الجهابذة الحافظ الكبير والمحدث الشهير أبو شعيب بن عبد الرحمن الدكالي رحمه الله.
من أشهر تلاميذه: محمد بن العربي العلويّ، وعبد الحفيظ الفاسيّ، ومحمد السايح، وعبد الله كنون، والمكي بن أحمد بربيش، ومحمد المكي الناصري.
رحل إلى القاهرة سنة أربع عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة، ومكث بها نحو ست سنوات، ثم رحل إلى مكة فأقام بها مدة، ولاّه أمير مكة الشريف عون الرفيق الخطابة في الحرم المكي والإفتاء على المذاهب الأربعة. كما درَّس أيضا بجامع الأزهر بمصر، والزيتونة بتونس.
عُيّن قاضياً بمراكش ووزيراً للعدليّة والمعارف فيما بعد، ثم رئيساً للاستيناف الشرعيّ.
– قال عنه عبد السلام بن سودة: “الشيخ الإمام علم الأعلام، المحدّث المفسّر الرّاوية على طريق أيمة الاجتهاد، آخر الحفاظ بالديار المغربية ومحدثها ومفسرها من غير منازع ولا معارض.” (سلّ النصال ص82).
– قال عبد الحفيظ الفاسي: “إمام في علوم الحديث والسنة.. متظاهر بالعمل بالحديث والتمذهب به قولاً وعملاً داعية إليه ناصر له” (رياض الجنة 2/142).
توفي سنة ست وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة.
– قال عبد الله الجراري: ففي سنة خمس وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة قدم إلى المغرب ويمم فاس، وحظي بالتجلة والإكرام عند السلطان المرحوم المولى عبد الحفيظ، وقد حصل له من الشفوف والحظوة لديه ما عزّ نظيره، وتهافت عليه علماء فاس وطلبتها وأعيانها، وأقبلوا عليه باعتناء كبير، في هذا الظرف شمّر عن ساعد الجدّ لمحاربة البدع ونصر السنة، ومقاومة الخرافات والأباطيل. (المحدث الحافظ ص9-10).
– وقال: “كان ينادي بردّ الناس إلى الكتاب والسنة، ويحضّهم على اتباع مذهب السلف الصالح ونبذ ما يؤدّي إلى الخلاف وما ينشأ عنه من الحيرة والدوران في منعرجات الطرق؛ لأن الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه ولا أمتاً؛ هو طريق السنة والكتاب.” (المحدث الحافظ ص80).
– قال عبدالله كنون: “قام الشيخ أبو شعيب الدكالي بدعوته التي كان لها غايتان شريفتان: الأولى إحياء علم الحديث ونشره على نطاق واسع.. والثانية -وهي بيت القصيد- الأخذ بالسنة والعلم بها في العقائد والعبادات؛ فقد جهر في ذلك بدعوة الحق، ودل على النهج القويم، والصراط المستقيم، بالبرهان الساطع والحجة الناصعة، وندد بالخرافات والأوهام، وأطاح بالدعاوي الباطلة والأقوال الواهية، وبين وجه الصواب في كل مسألة مسألة من مسائل الخلاف الفقهي، وأقنع خصوم الدعوة قبل أنصارها بما لم يجدوا فيه دفعا ولا له ردا، وهكذا حدث تحول كبير في مفهوم الاجتهاد والتقليد بالنسبة إلى أدلة الفقه، وتخفف العلماء من التقيد بالنصوص المذهبية، ومالوا إلى الترجيح والعمل بالسنة عند ثبوتها ونبذ ما خالفها. وكذلك ضعف الاعتقاد في المشايخ وتقديس الأموات، والغلو في الطرقية، والتعلق بتعاليمها التي ما أنزل الله بها من سلطان.” (مجلة دعوة الحق التي تصدرها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في المغرب العدد 7 سنة 1969م ص: 8-9).
– قال محمد السائح عن الشيخ أبي شعيب: “وقد اتصل صدى حركة الإصلاح التي كان يقوم بها الشيخ بالقصر؛ فصدرت بها ظهائر شريفة تؤيد تلك الحركة، منها ظهير في منع ما يقوم به بعض أرباب الزوايا مما يعد قذى في عين الدين وبهقا في غرة محاسنه.” (مجلة دعوة الحق العدد 2 سنة 1969م ص:39).
قلت: لو وجدت بعض الأقطار عشر معشار أبي شعيب الدكالي في العِلم والجَلَد والتضحية، لما وسعها إلا أن تعتني به غاية العناية في حياته، وترعى ما كان يدعوا إليه بعد وفاته، وفاء منها لوفائه. (يتبع في العدد القادم بإذن الله).